ذكرياتى فى دمنهور «2»

ذكرياتى فى دمنهور «2»رجب البنا

الرأى27-11-2021 | 09:27

كانت أسعد أيام الطفولة هى الأيام التى كنت أقضيها عند أخى (السيد) فى قرية دميرة، محافظة الدقهلية، وكان هو ناظر الدائرة فى مزارع الأمير عمر طوسون، ومعه وكيل الدائرة ويشرف على أعداد من الخفر وعمال الزراعة، ومن الصباح يخرج مبكرا على حصان أو على (الركوبة)، وهى حمار متميز عليه بردعة فاخرة، ويحمل فى يده شمسية كبيرة، ولا يعود إلا بعد العصر لنجتمع على (الطبلية) وعليها (برام) الأرز وبطة أو (جوز فراخ)، أما اللحم فكان مخصصا له يوم الخميس حين يقوم جزار القرية بذبح عجل بعد أن يطوف به أنحاء القرية ويتأكد أهل القرية من أنه سليم وليس معيبا.

وفى المساء كان أخى (السيد) فى (المضيفة) مع الوكيل وكبار رجال القرية يتبادلون الأحاديث عن أخبار القرية وأهلها، فإذا جاءت سيرة والد من القرية مريض قاموا جميعا لزيارته، لا أذكر من أحاديثهم إلا النكت التى كانوا يضحكون عليها، وبعد ذلك ينقلبون إلى مشاغبة أحد الحاضرين ليضحكوا ويضحك معهم وهو يقول (يا سلام يا حضرة الناظر الله يحظك).

وكانت زوجة أخى (أبله فتحية الكاتب) هادئة الطبع وطيبة القلب، كانت تبدو مهتمة بى ربما أكثر من أبنائها، وقد يكون ذلك لكى ترضى زوجها الذى يسألها عند عودته عن تفاصيل يومى، ماذا أكلت، وأين ذهبت، ومع من لعبت، وكانت حريصة على أن تقدم لى كل ما لديها من أصناف الطعام، حتى أصبحت بدينا، وكان ذلك يسر أخى ويرى أن زوجته (عملت الواجب).

أذكر أنها سألتنى يوما: (تحب تاكل إيه؟) فقلت لها بسذاجة الطفل: (الكسكسى)، فكان ذلك وبالا علىّ وعلى الجميع لأننى شاهدت فى اليوم الثانى سيدتين تجلس كل منهما أمام (طشت) وتفرك الدقيق والعجين إلى أن يملأ (الحلل) وليس (حلة) واحدة، وبقيت عدة أيام أفطر (كسكسى) بالسكر واللبن، وأتغدى (كسكسى) بالكفتة والدمعة، وأتعشى (كسكسى) بالسكر والمكسرات حتى أصبحت لا أطيق رؤية الكسكسى، لكنها ظلت تقول للسيدتين من حين لآخر: (نعمل كسكسى.. رجب بيحبه) وندمت ومازلت نادما على أنى طلبته.. وكلما تذكرت ذلك أضحك، وبعد ذلك أقرأ لها الفاتحة عند تذكر هذه الأيام.

أما أنا فقد كنت أصحو من النوم مبكرًا جدًا، توقظنى زوجة أخى، وإذا لم تفعل كنت أبكى لأنى كنت أستمتع بالخروج فى رحلة الصباح المبكر، بعد الفجر وقبل أن تطلع الشمس، كانت السيدة التى تعمل فى البيت تلف وجهى بشال كبير خوفا من البرد، وتعد (الحمارة) وتحملنى عليها، وتحمل على رأسها (البلاص) وتسير إلى جانبى ومعها فتيات وسيدات من القرية يحملن (البلاص)، ويتجه الموكب فى هذا الوقت المبكر – قبل أن تسير قوافل الرجال مع (البهائم) – وتتجه إلى الحقول للعمل وإطعام (البهائم)، وعند الترعة تملأ السيدات (البلاليص)، وتعود بها، لتملأ (الزير) وتضع فيه (الشبه) التى تساعد على ترتيب الرواسب إلى قاع الزير، وتنزل المياه (نقطة نقطة) فى إناء من الفخار تحت الزير، ومن هذا الماء يملأن (القلل) لنشرب منها، لم يكن فى القرى فى ذلك الوقت مياه نظيفة، ولا كهرباء، ولا صرف صحى، وكانت الإنارة فى بيوت الفلاحين من (لمبة جاز)، وفى بيت أخى (حضرة الناظر) كلوب فى كل غرفة يأتى خفير ليملأ كل كلوب بالجاز، ويشعله، وإذا وجد (الرتينة) التى تشتعل وتضىء قد احترقت يقوم بتغييرها.

كانت بيوت القرية كلها بالطين، يتم صناعة الطوب بالطمى، ويتم بناء البيت بالطين، بيت حضرة الناظر، وحضرة الوكيل فقط بالطوب الأحمر، ومن دورين، وملحق بكل منهما حديقة و(زريبة) للحمار والجاموسة، وطبعا كانت أمتع اللحظات حين أجلس لمشاهدة (أم مرعى) وهى تحلب الجاموسة وتضع جزءا من اللبن فى إناء خاص لتشرب منه، والباقى يملأ آنية من الفخار تحفظ فى دولاب ليكون فى كل إناء اللبن الرائب، والقشدة، وكنت أسعد بأكل اللبن الرائب والقشدة، وتذهب (أم مرعى) بالآنية لتحول اللبن الرائب إلى جبن، وتحول القشدة إلى زبد..

وكان بيت الوكيل ملاصقا لبيت أخى، وكانت له طفلة فى مثل سنى أظن أن اسمها (نوال) على ما أذكر، كانت تأتى إلينا لتلعب، أو أذهب إليها، ويبدو أنها كانت أول حب فى حياتى، لأننا كنا لا نفترق إلا عند النوم، وفى أوقات الطعام كنا معا نأكل عندنا أو عندها، وكأن البيتين بيت واحد، وفى يوم اختفينا أنا وهى، وعندما طال غيابنا بدأ القلق يساور الكبار، وانطلق الخفراء بحثا عنا ظنا بأننا قد نكون خرجنا وبعدنا عن البيت ولم نعرف طريق العودة، وبعد ساعات عثروا علينا فى مخبأ أعددناه على سطوح بيتها لم يخطر على بالهم.. وبين الغضب والضحك والتعليقات والغمزات قضى الجميع ليلتهم، وظلت هذه الحادثة موضع تندرهم يشغلون بها فراغهم..

هكذا كانت أيامى فى الشهور التى أقضيها عند أخى، وطبعا كان يصحبنى أحيانا فى جولاته فأشعر بالنشوة من رؤية المزارع والأشجار، ومشاهدة الفلاحين وهم يقومون بعملهم بهمة كبيرة ويمسحون العرق فى ملابسهم.. كانت أدوات الزراعة بدائية كلها من الأخشاب.. الرى يتم بالساقية من بئر عميقة والساقية تدور بها (جاموسة) على عينيها غمامة، وتتدفق المياه من الترعة إلى ترع فرعية لتروى الأرض، والمساحات الصغيرة القريبة من الترعة الكبيرة تروى بالشادوف وهو عبارة عن رافعة فى طرفها (جردل) وفى الطرف الآخر قطعة من الحجارة أو الطين، ويتم إنزال الجردل إلى الترعة يجذب حبلا ويرتفع الجردل عند ترك الحبل وتلقى المياه لرى الأرض، وأحيانا كان رى هذه الأراضى بالشادوف، كذلك كان حرث الأرض يتم بالمحراث الحديد المربوط بقطعة خشب كبيرة تجرها البقرة أو الجاموسة، ويدوس المزارع على المحراث ليتعمق فى الأرض، وكذلك كانت دراسة القمح والأرز بعربة من الخشب تسير على إطارات حديد، وتجرها البقرة أو الجاموسة فى شكل دائرى لتفصل الحبوب عن (القش) ويقوم المزارع باستخدام (المدراة) ليرفع المحصول ويفصل الحبوب عن القش وينقل الحبوب إلى البيوت، أما محصول (البرنس) فهو الأكثر وينقل إلى المخازن.

كان (الخبيز) يوميا، وتجلس (أم مرعى) أمام الفرن وتساعدها إحدى الفتيات فى العجين وإعداد الأرغفة، وعمل فطير باللبن والزبد للإفطار، وبرام الأرز وصينية (الهريسة) التى كنا نحبها.

كانت تسليتى أن أشاهد الأطفال وأنا فى طريقى وهم يتسلقون الأشجار ويجمعون التوت والجميز وكنت أحسدهم وأتمنى أن أفعل مثلهم لكن ذلك كان ممنوعا بالنسبة لى.. كانت الرقابة علىّ مشددة سواء فى البيت أو الطريق أو فى (الغيط).. وأخى ينبه على الخفر: (خلو بالكم منه عاوزينه يرجع سليم).

أيام لا أنساها.. حين أتذكرها تخفف عنى لحظات الضيق، ولكننى أذكر معها حال الفلاحين فى ذلك الزمن.. أذكرهم بملابسهم الرثة الملوثة بالطين، ورءوسهم المعصوبة بمنديل كبير، وهم يسيرون حفاة (لم يكن يسير بالأحذية إلا عدد محدود جدا)، وكانوا يعانون من الأمراض، ومن الطبيعى أن نسمع أن فلانا ذهب إلى (الإنكلستوما) لأنه يعانى من نزيف، وكانت الإنكلستوما بعيدة وتعالج مرضين يصاب بها معظم الفلاحين هما البلهارسيا والإنكلستوما، ويتحول المرض مع كثير منهم ليكون مرضا مزمنا يتلف الكبد ويؤدى إلى ضعف يعجز معه الفلاح عن العمل فى الغيط، وتتولى زوجته وأبناؤه وبناته العمل، وأذكر مشهد عمال التراحيل، يأتى رجل على سيارة نقل ويجمع عددًا من الرجال والنساء والأطفال للعمل فى المزارع البعيدة مقابل خمسة قروش (للنفر).

واليوم، وأنا أسترجع الذكريات عاد إلى يوم السوق، يوم ترى الفلاحين والفلاحات يحملون كل ما يخطر على البال للبيع، كان هذا اليوم بالنسبة لى (فسحة) أشاهد فيها جميع أنواع الحيوانات والطيور وزحامًا شديدًا، وعشرات الرجال والنساء يعرضون الطيور والخضراوات والفاكهة والفطير وجزار القرية يرفع (الذبيحة) على خطاف وصبيه ينادى، وتختلط الصيحات..

وحتى اليوم أحتار فى فهم كيف كان الفلاحون يشترون احتياجاتهم بدون نقود – فلم يكن لديه نقود إلا قلة قليلة – والباقى يشترى بالمقايضة.. بالبيض، والذرة، والجبن، والزبد.. إلا اللحم فهو بالنقود، ولم يكن الفلاحون يقبلون عليه لأنهم لا يأكلون اللحم إلا فى العيد وفى مولد النبى، والعائلات (المقتدرة) فقط هى التى تشترى اللحم فى يوم السوق، كيف كان الفلاحون يحددون (القيمة) التى حيرت الاقتصاديين، كيف كانوا يشترون احتياجاتهم بالبيض والذرة، كيف كانوا يحددون أن هذا البيض يساوى هذه البضاعة.. هكذا كانوا يتعاملون فى زمن تعايشوا فيه مع الفقر والحرمان.

حياة قاسية فيها الحرمان، وفيها المشقة فى السعى للحصول على لقمة العيش، وفيها المعاناة فى توفير الاحتياجات اليومية، وفيها المعاناة من الأمراض التى تجعل الرجل أو المرأة فى سن الأربعين كأنهما فى السبعين، والموت المبكر فى سن الشباب ليس غريبا يتقبله الفلاحين باستسلام (والأعمار بيد الله)، ومع ذلك لا أذكر أنى سمعت شكوى من الفلاحون، كما أسمع اليوم من الموظفين وأصحاب المحلات.. كانت حالة الرضا فى الجميع (وكل حاجة قسمة ونصيب، واللى يجيبه ربنا كل كويس، والحمد لله على كل حال).. وأظن أنى تعلمت فى هذه الفترة أن أقترب من الفقراء والمظلومين وأصحاب الحاجات وأشعر بمعاناتهم، والفضل فى ذلك أيضا لتأثير أمى التى كانت تحب (الغلابة) وتفتح لهم البيت، وهذه قصة أخرى.

ونقل أخى من قرية (دميرة) إلى قرية فى المحمودية، ويبدو أن هذا النقل كان مصحوبا بترقية لأن أخى كان يبدو مسرورًا بالعمل الجديد، وتحسنت أحواله أكثر، وبعد سنوات عاد إلى دميرة، وكنت قد حصلت على الابتدائية وأستعد للذهاب إلى المدرسة الثانوية، وفى هذه المرة كانت المفاجأة أو وكيل الدائرة مازال هناك، وابنته (نوال) كبرت طبعا، وظل أخى يعيد ويزيد فى قصة هروبى معها واختفائها، والوكيل يضحك حتى يكاد يستلقى على قفاه، وجاء يوما مع ابنته (نوال) فوجدتها قد وصلت إلى مرحلة الأنوثة بجسمها الممتلئ، ووجهها المورد، وطولها الفارع، وابتسامتها الدائمة، وشعورها بالخجل عندما سلمت علىّ، ولكن بعد عدة أيام أصبحت تتردد علينا ونجلس معا فى المضيفة نتبادل الحكايات والأحاديث دون أن ينتهى الكلام، وفى يوم قال الوكيل: إيه رأيكم نوال لرجب؟ وأجابه أخى ضاحكا: (اتفقنا بس لما ياخد الثانوية العامة).. وانتهت الإجازة ودخلت المدرسة الثانوية، ومرت سنوات نقل فيها أخى إلى الإسكندرية مرة أخرى (عمل فى الإسكندرية مرتين بينهما سنوات دميرة والمحمودية) فى المرة الأولى كنت صغيرا، وفى المرة الثانية كنت فى المرحلة الثانوية..

ولم يمض وقت طويل حتى سمعت من أخى أن (نوال) تزوجت، وعلّق على ذلك بأن البنات يكبرن بسرعة ويصلن إلى سن الزواج، بينما الصبيان لا يصلون إلى سن الزواج إلا بعد عمر طويل (!).

وفى الذاكرة الأيام التى كان أخى (عبد الوهاب) يأخذنى معه لنسافر إلى الإسكندرية ونسير فى شوارعها، ونركب الترام (أبو دورين) ونسير على الكورنيش، ونتناول الغداء فى مطعم شهير فى محطة الرمل، ونقضى اليوم كله ونعود بالقطار آخر الليل ومعنا علبة (جاتوه) كانت تسعد بها أخواتى البنات وينتظرن قدومنا مهما تأخرنا، ويتقاسمن محتويات العلبة حتى تفرغ تماما.. كان أخى (عبد الوهاب) يتردد كثيرا على الإسكندرية لمقابلة التجار الذين يتعامل معهم وللفسحة، وفى بعض الأحيان كان يقبل عزومة أحدهم على الغداء، ويكون هذا الغداء فى حد ذاته من ذكريات هذا الزمان، كانت المبالغة فى تقديم أنواع الطعام دليلا على الكرم والترحيب بالضيف، ولم نكن نعرف السمان إلا فى الإسكندرية، كما كنا لا نعرف الجمبرى والكابوريا والسبيط إلا هناك، فلم يكن فى دمنهور إلا الأسماك بأنواعها، وبعد ذلك أصبح التجار يستوردون هذه الأصناف من الإسكندرية ولا يقبل عليها إلا عدد محدود من رجال المدينة، ولم يكن غريبا أن تسمع من يقول إن الجمبرى مثل الجراد، وأن الكابوريا مثل العقارب، وأن السبيط ليس من الأسماك.. أما نحن فكنا نحبها، ربما لأننا تأثرنا بأهل الإسكندرية بعد مخالطتهم سنوات.

أضف تعليق