في الطريق إلى أكتوبر (1)

في الطريق إلى أكتوبر (1)نصر سالم

الرأى20-9-2023 | 17:21

كثيرًا ما سألت نفسي أو تساءلت، متى بدأ الإعداد ل حرب أكتوبر 1973 بالطبع لم أقصد متى بدأت الدولة أو متى بدأت القوات المسلحة، فهذا مُسجل فى مراجع كثيرة وفى أدبيات أكثر.. ولكن هذا التساؤل وهذا السؤال على المستوى الشخصي يعيدني إلى سنوات كثيرة أكثر من خمسين عامًا.. أيام كنت طالبًا فى المرحلة الثانوية ولم يتعدَ عمري السبعة عشر عامًا.. نعم كنت فى الصف الثاني الثانوي وكنت أهوى الشعر إلى درجة الاحتراف، وأذكر أن مدرستي «مدرسة دماص الثانوية» ذات الثلاثة فصول - وكانت حديثة عهد بالافتتاح حيث تم إفتتاحها بفصل واحد عام 1965، ثم فى العام الثاني تم زيادة فصل آخر هو فصلي وفى العام 1967 اكتملت الفصول الثلاثة– نظمت رحلة إلى قطاع غزة الذي كان فى ذلك الوقت تحت الإدارة المصرية، وقطعنا الرحلة بالقطار الذي عبر بنا قناة السويس من فوق كوبري الفردان المعدني الذي كان يتم فتحه وغلقه طبقًا لحركة الملاحة فى القناة، وبعد العبور إلى الضفة الشرقية للقناة توقفنا فى الجمرك -نعم جمرك على أرض مصرية – وتم فيه تفتيش جميع ركاب القطار والتأكد من هويتهم، ثم توجه القطار بنا شرقًا على ذلك الخط العتيق مارًا بكل مدن سيناء على الساحل الشمالى مثل القنطرة شرق ورمانه والعريش ثم رفح المصرية فالفلسطينية بين المروج الخضر وحدائق الزيتون والبرتقال حتى وصلنا إلى مدينة غزة فى المساء، وكم كانت جميلة ورائعة بتضاريسها وأشجارها وشوارعها، ونزلنا فى أحد النزل المخصصة للشباب بصفة عامة وللرحلات الجامعية والمدرسية بصفة خاصة، وقضينا تلك الليلة التي مرت علينا سريعًا حيث قضيناها فى النوم بعد يوم شاق مضى فى السفر وفى صباح اليوم التالي استيقظنا مبكرين ونزلنا إلى شوارع غزة النظيفة الجميلة التي امتلأت بالمقاهي والمطاعم وتناولنا طعام الإفطار فى أحدها وكان عبارة عن طبق من حمص الشام المخلوط بزيت الزيتون مع الخبز الطازج الذي يخرج من الفرن مباشرة إلى المائدة إضافة إلى بعض المشهيات والمقبلات الرائعة التي لا يفارق طعمها فمي حتى الآن، بعد الإفطار السريع تجمعنا فى مكان المبيت أو النزل طبقًا للتلقين السابق لنا من مشرفى الرحلة ثم توجهنا بصورة مجمعة إلى مبنى كبير أشبه بقصور الثقافة.

وهناك تقابلنا مع عدد لا بأس به من طلاب المدارس الثانوية الأخرى التي أتت مثلنا فى تلك الرحلة؛ وكل مدرسة تقوم بتسجيل أسماء طلابها الذين فى الرحلة فى سجل خاص بذلك المركز الثقافى الكبير ثم تجمعنا كلنا فى قاعة كبيرة تسع أكثر من ألف فرد وفيها منصة مجهزة بمكبرات الصوت وأخذ أحد المسئولين الفلسطينيين يشرح لنا القضية الفلسطينية ويعطينا تلقينًا كاملًا عما حدث للفلسطينيين منذ النكبة وما قبلها حتى تم طردهم من بيوتهم ليعيشوا عيشة الكفاف فى خيام اللاجئين التي لا تليق بالآدميين وأننا سوف نقوم بالمرور على تلك الخيام لنشاهد بأعيننا ما فعلته إسرائيل بشيوخنا ونسائنا وأطفالنا، وبعد أن انتهى التلقين طلب ناظر إحدى المدارس -التي كانت معنا فى تلك الرحلة- أن يلقي كلمة فرحبوا بذلك، وأخذ يلقي كلمته فى حماسة أضاعت منه الكثير من أصول اللغة، ووجدتني أهمس إلى أحد الفلسطينيين المسئولين عن تنظيم هذا اللقاء وكان بالصدفة يجلس إلى جواري - وأقول له، هل أستطيع إلقاء قصيدة عن فلسطين فرحب بذلك بعد أن استأذن من المسئول الأول لديهم ودعاني إلى الصعود للمنصة وإلقاء قصيدتي، التي لاقت إستحسانًا وتصفيقًا لم أكن أتوقعه رغم أن التيار الكهربائي إنقطع وتوقف مكبر الصوت، وأنا ألقيها ولم أشعر إلا بصوتي يجلجل وجسد يرتجف حماسًا ودموعي تفيض من عيناي، وما أن انتهيت منها إلا ووجدت زملائي فى المدرسة يحملوني فوق أعناقهم فى فخر، ومشرف الرحلة يصرخ فى لماذا لم تقل أنك من مدرسة دماص الثانوية وهو الذي أخفى وجهه بكفيه بمجرد أن رآني أقف على المنصة خشية أن أتلعثم أو أسبب لهم الإحراج -وكانت حجته فى ذلك أنه أشفق علي بعد أن رأى من سبقني وهو أستاذ كبير يظهر بصورة لم يكن يتوقعها.

بعد انتهاء ذلك اللقاء الحماسي خرجنا جميعًا لنستقل عددًا من الأتوبيسات المزودة بالمرشدين لنمر بها على الخط الفاصل بين فلسطين المحتلة وقطاع غزة ونشاهد معسكرات اللاجئين الفلسطينيين وهي عبارة عن خيام للإيواء يعيش فيها هؤلاء الأفراد الفلسطينيين منذ عام 1948، وكان سؤالي الذي لم أستطع كتمانه إلى ذلك المرشد الذي يصاحبنا لماذا لا تبنون لهم بيوتًا، أسوة بأبناء هذا القطاع الذين يعيشون فى رغد من العيش فى بيوت أقرب إلى الفيلات والقصور، فكان رده الذي لم يقنعني، أنهم يتركونهم هكذا لكي يراهم العالم ويشعر بمصيبتهم ويتعاطف مع قضيتهم ولا يتم نسيانهم..

وإستكملنا المرور على باقى الخط الحدودي لنرى بقايا قرية بيت حنون التي دمرها الإسرائيليون على من فيها من الفلسطينين، ونسمع ونرى فى كل شبر نمر به قصة ومأساة لا يمكن السكوت عليها، وفعلًا كان حال اللاجئين تهتز له القلوب وتفيض له بالدمع العيون.

كم كانت الأيام التي قضيناها فى قطاع غزة ممتعة وجميلة بين التسوق وشراء بضائع لم نر مثلها فى مصر، وتباع بأسعار زهيدة أقل بكثير مما تباع به فى مصر «إن وجدت»، ولم يعكر صفو رحلتنا إلا تلك الصور والقصص المأساوية التي عشناها ولم تفارقنا حتى بعد أن غادرنا مدينة غزة عائدين إلى بلادنا،

لقد كان لسان حالنا يردد:

يا فلسطين التى كدنا لما كابدته

من أسًا ننــــــــــسى أســـــــــــانا

نحن يا أخت على العهد الذي

قد شربناه من المهد كلانا

كانت تلك الرحلة فى نهاية شهر مارس عام 1967، وما أن عُدنا وقلوبنا تقطر دمًا على الأشقاء الفلسطينيين اللاجئين، ودماؤنا تغلي فى عروقنا بغية إعادة حقوق هذا الشعب وإستعادة أرضه التي اغتصبت، إلا وتعج المنطقة العربية بأحداث جسام من سوريا شمالًا إلى الجمهورية العربية المتحدة (مصر) جنوبًا، ويهل علينا شهر مايو لتتوتر الحدود على الأراضي المصرية وترفع القوات المسلحة المصرية درجات استعدادها وتتحرك إلى مواقعها الأمامية فى سيناء لردع إسرائيل ومنعها من تهديد الأراضي السورية طبقًا لرواية الأشقاء السوريين، وإمعانًا فى الضغط على إسرائيل تطلب القيادة المصرية من قائد قوات الطوارئ الدولية سحب قواته من الحدود المصرية الإسرائيلية، فيقوم «الجنرال أنزيو سيلازفو» قائد تلك القوات بسحبها من كل الخطوط التي تتواجد عليها فوق الأراضي المصرية بما فيها القوات الموجودة فى مضيق تيران -رغم أن مصر لم تطلب ذلك- وتشتعل الجبهة بالتحركات العسكرية على كلا الجانبين، تحت صخب وضجيج إعلامي ليس له مثيل بأن مصر سوف توجه إلى إسرائيل ضربة قاضية إن هي أقدمت على مهاجمة الأراضي السورية.

ويعلو بنا سقف الآمال والأمجاد إنتظارًا ليوم الخلاص وإعادة الحقوق الفلسطينية إلى شعبها.

وسريعًا سريعًا تدور الأحداث..

ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!

أضف تعليق

إعلان آراك 2