أعيدوهم مشرقين مرة أخرى

أعيدوهم مشرقين مرة أخرىغلاب الحطاب

الرأى1-3-2024 | 17:53

يقول الله عز وجل في سورة الشعراء، واصفا مشهد الملاحقة بين فرعون وبني إسرائيل عندما قرر فرعون القضاء عليهم وملاحقتهم وهم متجهون ناحية البحر الأحمر: "فأتبعوهم مشرقين"، أي أن فرعون وجنوده تبعوا ركب بني إسرائيل وهم يفرون نحو البحر أي نحو الشرق وهو المفهوم من لفظ "مشرقين".

ويقال إن عددهم في أحد الروايات يومئذ كان ستمائة ألف نسمة غير أنهم كانوا ضعفاء منزوعي السلاح لا تنظيم بينهم ولا تنسيق سوى أنهم كانوا يمثلون عرقًا مختلفًا عن أعراق المصريين في ذلك الوقت، كما أنهم كانوا يعبدون إلهًا مختلفًا عن الإله الرسمي للدولة، التي أعلن فرعون فيها أنه هو ذلك الإله.

واليوم وبعد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، يعود هؤلاء الفارين نحو الشرق ليتابعوا الفلسطينيين نحو الغرب وبين فرارهم نحو الشرق و فرعون يلاحقهم وبين فرار الفلسطينيين الآن نحو الغرب واليهود يلاحقونهم ،أزمنة طويلة لم يستفد خلالها اليهود أبدًا من التجارب المتلاحقة التي أحاطت بهم وكادت أن تقضي عليهم ولا تذر منهم أحدًا .

إن المقارنة بين الواقعتين هي بلا شك مقارنة بين متشابهين، فدعونا هنا نرى أوجه التشابه والاختلاف بين فرعون المذكور في التوراة والإنجيل والقرآن وبين بني إسرائيل، ثم نرى أوجه الشبه والاختلاف بين بني إسرائيل المستضعفين في التوراة والإنجيل والقرآن وبين الفلسطينيين في غزة الآن .

إن فرعون المذكور في الكتب المقدسة، هو ملك لا يؤمن بالله ، ونتنياهو ووزارته هم جميعًا لا يؤمنون بالله ولا أقول هذا تأسيسًا على عقيدتي كمسلم يرى فساد عقيدة اليهود على مذهب ابن حنبل مثلًا كإخواننا في السعودية، وإنما أقول ذلك تأسيسًا على ما يقوله أحبار اليهود أنفسهم وكهنتهم عن نتنياهو والسياسيين الإسرائيليين الذين اعتنقوا أفكارا غربية حديثة بعيدة عن العهد القديم ومخالفة لتعاليمه، فهم مثلا يشربون الخمر ويأكلون الخنزير وهو يؤمنون بعلمانية الدولة والأخذ بالحياة الحديثة وهم يؤمنون أخيرًا بأحقيتهم في إقامة دولة في حين أن التوراة تنهى عن أكل الخنزير والخمر وتحظر عليهم إقامة الدولة وتخلط بين مفهوم السياسة والعقيدة الدينية، فلا يمكن أبدًا لحكام إسرائيل اليوم أن يقدموا أنفسهم على أنهم بني إسرائيل الذين نقرأ عنهم في تلك الكتب المقدسة، وإنما هم محصلة مشروع استعماري غربي قادته بريطانيا عندما كانت دولة عظمى وعندما ورثت أمريكا بريطانيا وأوروبا كلها تبنت الفكرة البريطانية القديمة لأهداف استعمارية بحتة، أولها صرف الأنظار عن قضية الاستقلال عن المستعمر البريطاني، والثانية استعمالها كدولة وظيفية داخل المنطقة العربية، والثالثة إحداث تغيير "جيوسياسي" في قلب العالم العربي الذي بدا ككتلة واحدة قبل وعد "بلفور" بعدة سنوات.

ولا شك أن تذرع اليهود بآلات القتل العشوائي يجعلهم في مركز من الإجرام والكفر أكبر من فرعون نفسه، لأن فرعون كان يقتل الأطفال الذكور أما هؤلاء فإنهم يلقون قنابلهم على العمارات السكنية بكل من فيها من أطفال ونساء وشيوخ ثم يرسلون قواتهم البرية من بعد لتقتل من بقى فيها حيًا، و فرعون كان يتمسك ببقاء بني إسرائيل في مصر فقد جادل موسى قائلًا: "أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى"، فكأنه كان يريد إخضاع تلك الفئة لدستوره دون أن يقضي عليها بالطرد.

أما نتنياهو وزملاؤه فهم يتحدثون عن يهودية الدولة، أي أن يكون كل من فيها من اليهود وقد أصدرت الولايات المتحدة البيانات الرسمية المختلفة تعترف فيها بفكرة يهودية الدولة، وهو ما يعني بالضرورة طرد ما عدا اليهود من الأرض العربية وهو البرنامج السكاني الذي إن طبق بحذافيره المنصوص عليها في كتبهم المقدسة فلابد من إخلاء فلسطين ومصر والعراق والأردن وسوريا وجزء كبير من السعودية من السكان الأصليين وإعطائها لليهود لتتحقق نبوءة إشعياء من النيل إلى الفرات ، وعليه فإن فرعون كان أقل حدة من هؤلاء وأكثر احترامًا لحق الطوائف في العيش في البلاد التي ولدوا وكبروا فيها من هؤلاء "الحثالة" الذين لا يعرفون حقوق الإنسان ولا قيمته عند الله ولا عند البشر، وهذا ما يفسر ما تعرضوا له دون كل الطوائف البشرية الأخرى من عمليات إبادة عبر التاريخ خصوصًا في أوروبا التي ما إن دخلوا بلدًا إلا وجمعتهم وقتلتهم جميعا.

إن فرعون كان يسمح لبني إسرائيل بالعمل والملكية وتكوين الثروات في حرية كاملة، فهاهو قارون أحد الإسرائيليين في ذلك العهد يتبع الدين الفرعوني ليكون أغني شخص في الدولة، أما اليهود الموجودون في فلسطين الآن فإنهم لا يسمحون لأحد بالدخول في دينهم فلا يهودي إلا من كانت أمه يهودية وليس للفلسطينيين من بعد سوى العيش كعبيد، حتى يأتي وقت طردهم من البلاد لأنها بلد لليهود فقط أو الموت تحت ركام بيوتهم إن تمسكوا بالبقاء.

إنها عنصرية مغلقة لا متنفسًا فيها إلا بالخروج من البلاد، إن فرعون لم يقتل موسى ولم يقتل هارون اللذان قادا المواجهات ضده بل حاول أن يهزمهم سياسيًا في واقعة مفتوحة يوم الزينة احتشد فيها ملايين المصريين وظل يواجههم سياسيًا وبأساليب القمع، ولكنه أبقى الحوار مفتوحا أما اليهود الموجودون الآن فلا حلول لديهم سوى قتل القادة بكل أساليب الخسة والنذالة فاغتالوا ياسر عرفات بتعريضه لجرعات إشعاعية مدمرة للمخ من خلال قبعة سربوها إليه من أحد مساعديه ومن قبل قصفوا مقر إقامته في تونس وسعوا إلى قتله في لبنان وعرضوه لكل أشكال الإهانة في مقر إقامته في رام الله، حتى أنهم قصفوا حمامات بيته وظل بلا حمام مدة زادت على الشهر بينما "جورج بوش" يردد عبارته الركيكة ،" I am disappointed of Yasser Arafat " أنا محبط من ياسر عرفات ثم قتلوا الشيخ أحمد ياسين وهو على كرسيه المتحرك متجها إلى المسجد لصلاة الفجر واتبعوا ذلك باغتيال عبد العزيز الرنتيسي وأرسلوا إيهود باراك إلى تونس ضمن فريق اغتيال لقتل أبوجهاد في تونس وأرسلوا فرق الاغتيال إلأى دبي لاغتيال المبحوح في الفندق، إنهم في الواقع أقل احترامًا لمباديء المواجهة السياسية من فرعون بمراحل بعيدة.

إن التاريخ العالمي سوف يتوقف طويلا أمام ما يمكن لليهود أن يفعلوه بالشعوب الأخرى إذا قدروا عليها دون موانع إنهم يقتلون بلا رحمة إنهم قتلة فقط إن إزهاق الأرواح لديهم عبادة وقتل الأطفال والنساء عندهم نسك وهدم البيوت حضارة وطرد الشعوب من أرضهم حقوقا تاريخية وصناعة الحرب بين الفرقاء هو حرفتهم القديمة .

لو انتقلنا هنا للمقارنة بين الفلسطينيين اليوم وبني إسرائيل المكتوبون في الكتب المقدسة لوجدنا أن الفلسطينيين اليوم أنبل ألف مرة من بني إسرائيل الذين عايروا موسى بعد نجاتهم من فرعون بأن ليس لهم آلهة بينما بعض العاكفين على أصنام لهم آلهة متعددة، إن الفلسطينيين لم يعبدوا العجل المقدس كما عبده اليهود والذي ما زال مقدسا لديهم في إطار مواجهاتهم المتكررة مع الله سبحانه وتعالى كلما نهاهم عن أكل أموال الناس بالباطل والتعامل بالربا اتجهوا إلى عجلهم القديم ظنا منهم أنهم بذلك ينتقمون من الله.

إن الفلسطينيين اليوم لم يدخلوا إلى فلسطين كما دخل اليهود إلى مصر طلبا للحنطة وإنما هي أرضهم من لدن نوح إلأى يومنا هذا، والحقيقة أنه لا وطن للإسرائيليين فهم في الأساس بدو كما أخبر بذلك يوسف عليه الصلاة والسلام عندما قال "وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي"، وهل للبدو وطن؟.

إنما مواطن البدو هو الكلأ يرحلون وراءه بأغنامهم وأبقارهم، إن الفلسطينيين اليوم يعبدون الله الواحد الذي دلت عليه التوراة وهم بذلك أكثر إيمانا من اليهود باعتراف أحبار اليهود أنفسهم الذين أفتوا بكفر نتنياهو ووزارته بتعاليم التوراة التي تحرم الخنزير وتحرم الدولة، إن الفلسطينيين اليوم هم الصابرون على القتل والظلم أكثر مما صبر بنو بني إسرائيل الذين ذهبوا إلى موسى ليقولوا له: "أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا".

إن ملاحقة اليهود للفلسطينيين اليوم في اتجاه الغرب أي نحو مصر، هو أحقر ما كتب التاريخ عن قوم مجرمين لا يعرفون أي حقوق لأمم أخرى سواهم؛ وهو أكثر إجراما من ملاحقة فرعون لبني إسرائيل الموصوف في التوراة والقرآن نحو الشرق "فأتبوعهم مشرقين"، ويتعامل الجيل الحالي من الإسرائيليين على أنهم فرعون الجديد ويريدون أن يعيدوا الفلسطينيين إلى الغرب حتى يلقوا بهم إلى المحيط .

ولكن ستكون مهمة الجيل القادم من العرب مع اليهود هي، "أعيدوهم مشرقين" مرة أخرى وألقوا بهم إلى اليم .

أضف تعليق

الاكثر قراءة

تسوق مع جوميا