الكنز المصري (1-2)

قد يتبادر إلى ذهنك عزيزي القارئ بمجرد وقوع نظرك على كلمات العنوان أننا سنتعرّض خلال سطور المقال لاكتشاف كنز من المعادن النفيسة أو حقل ضخم من النفط أو الغاز الطبيعي ، أو كنز أثري يكشف عمق حضارة هذا الوطن الضاربة فى أعماق التاريخ، أو مورد جديد من الموارد الطبيعية يصنع مردودًا اقتصاديًا تظهر آثاره على الوطن.

لكنني فى الحقيقة أتعرض فى هذا العدد وفي العدد القادم بإذن الله، ونحن نتنسم نسمات مارس نستعيد فى التاسع منه ذكريات البطولة والفداء والتضحية لوطن قدم أبناؤه أرواحهم ودماءهم فداءً له وحرصًا على استقراره وأمنه.

لأن الأوطان لا تبنى إلا بالتضحيات ولا تظل راياتها عالية خفاقة إلا بأرواح قدمها أبناؤها دفاعًا عن الوطن وسيادته وحفاظًا على كل حبة رمل من ترابه الوطني، يظل الوطن لا ينسى أبدًا من قدموا له تلك التضحيات.

ففي مثلث القيادة من أرض طابور العرض بمصنع الرجال أقسم الأبطال وهم يسلمون العَلم ألا ينكّس قط ولا ينزل عن ساريته فقد وهبوا أرواحهم ودماءهم فداءً لوطنهم.

إنها روح التضحية والفداء كنز المصريين الأعظم، والسر الأكبر وراء بقاء أقدم دولة فى تاريخ الإنسانية.

كنز لا يقارن بالكنوز المادية الأخرى فجميعها قابل للنضوب إلا ذلك الكنز المتجدد على مر العصور والأزمان، كونه جينًا وراثيًا ارتبط بهذا الشعب العظيم الذي يخرج من بين صفوفه خير أجناد الأرض .

(1) فهو مَعين لا ينضب قط؛ ومهما حاولوا على مر العصور النيل من هذا الوطن ستكون روح التضحية والفداء التي يمتلكها أبناؤه حائط صد منيعًا فى مواجهة تلك المحاولات، فالأزمات لا تزيد الشعب المصري إلا قوةً وجلدًا وصلابة، وعندما يستشرف خطرًا يحيط بالوطن تجده قد خلع عن نفسه ثوب المدنية ولبس ملابس الجندية وإن لم تكن تلك الملابس التي يرتديها الجندي فى الميدان أو فى الصفوف الأولى للمواجهة، فقد تقزّمت كل الأزمات أمام ناظريه، وأصبحت الحياة لا تساوي حبة رمل من تراب الوطن، ورفع الشعب درجة استعداده القصوى للاصطفاف خلف قواته المسلحة التي دائمًا ما تحمل على عاتقها الحفاظ على الأمن القومي المصري والحفاظ على مقدرات الوطن وحدوده ومواجهة أي معتدٍ غاصب يحاول المساس بها.

ولأن الكنز المصري الكبير هي تلك الروح الوطنية التي نربي أبناءنا عليها.. وليس الأمر من فراغ بل هي بذور يولد بها الأبناء ويرعاها الآباء لتنمو وتزهر أجمل ما فى هذا الوطن.

شباب لم يكمل عقده الثاني من العمر مُقسمًا أن يذود عن مصر بروحه ودمه فتتوالى البطولات جيلاً بعد جيل، ويتغنى الشعب بأناشيد النصر، وتروى قصص البطولة فتلهب حماس الأجيال وتترعرع روح التضحية والفداء.

لمَ لا والأوطان لا تبنيها إلا أيادي المخلصين، ومن يمتلكون تلك الروح التي تنثر الخير والعطاء وتؤمن بالسلام.

لقد قدّم ذلك الوطن العظيم من أبنائه ملايين الشهداء على مر التاريخ بدءًا من «سكنن رع تا» أول شهيد مصري تاريخيًا من أجل الوطن والذي استشهد فى القتال ضد الهكسوس، وتتواصل الأجيال ويزداد الكنز قوةً وعظمًا، وبريقًا وتتوارثه الأجيال ليصبح شهيد يسلّم شهيدًا، على جبهة المواجهة والقتال وخلفه شعب قوي صامد لا تكسره الأزمات ولا تستطيع أن تفكك أوصاله الفتن كما أحدثت فى دول أخرى فأسقطتها وإمبراطوريات فهدمتها وفككت أوصالها.

فما لدولة أن تحيا وتتقدم إلا على إثر تضحيات قدمها أبناؤها لتنعم بالاستقرار والأمن ويصبح لديها القدرة على البناء.

وعلى مر التاريخ كانت تضحيات الشعب المصري أحد أسباب نهضته، إنه البطل الحقيقي كما يصفه دائمًا الرئيس عبد الفتاح السيسي .

ودعونا نتوقف ونحن نقترب من يوم الشهيد الذي يحل علينا الأسبوع القادم، ذكرى استشهاد الجنرال الذهبي الفريق عبد المنعم رياض الذي استشهد فى الخطوط الأمامية يوم 9 مارس 1969 وسط جنوده ليكون القدوة والمثل في التضحية والفداء، ولم تمر سوى أيام حتى كان التخطيط لعملية لسان التمساح التي تم تنفيذها فى 19 أبريل 1969 التي كبّدت العدو خسائر بلغت 44 قتيلاً إسرائيليًا وتدمير دبابتين ومدرعة نصف جنزير وتم رفع العلم المصري على الموقع وإنزال العلم الإسرائيلي.

( 2) دعونا نتوقف عند بعض قصص البطولة التي لا يزال هناك الكثير من التفاصيل تحملها بين ثناياها، ورسائل قوية للأبطال جعلتهم دائمًا المثل والقدوة، نقدمهم لأبنائنا ليلتمسوا خطاهم ويسيروا على دربهم، ففي كل قطعة من أرض هذا الوطن سُطرت حكاية بطل، وعلى ترابه الطاهر المقدس سالت دماء ذكية تملأ الأرض عطرًا وهي تسقط تروي أرضه لتنبت عزًا وفخرًا.

إن التضحية من أجل الوطن ليست كلمة تقال أو مشاعر تحس لكنها روح تسري فى عروق أبناء هذا الشعب العظيم.

ولأن الجيش المصري هو مدرسة التضحية والفداء ودرع الوطن وسيفه فقد تربى أبناء الجيش المصري على تلك الروح وكانت بطولات وتضحيات السابقين ملهمة للأجيال ونموذجًا يحتذي به، فكانت النتيجة هي استقرار الوطن وسط منطقة تسيطر عليها النزاعات وتضربها الفتن وتنال من بعضها جماعات وتنظيمات الشر المستهدفة إحداث حالة من الخراب للبلدان.

ففي أرض الطابور بمصنع الرجال وفى كل الكليات والمعاهد العسكرية يهتف الأبطال ليقسموا يمين الولاء «أقسم بالله العظيم، أن أكون جنديًا وفيًا لجمهورية مصر العربية، محافظًا على أمنها وسلامتها حاميًا ومدافعًا عنها، فى البر والبحر والجو، داخل وخارج الجمهورية، مخلصًا لرئيس الجمهورية، مطيعًا للأوامر العسكرية، ومنفذًا لأوامر قادتي، ومحافظًا على سلاحي لا أتركه قط حتى أذوق الموت، والله على ما أقول شهيد».

ودعونا نتوقف عند بعض من نماذج البطولة والتضحية التي سطرها أبناؤنا من أبطال القوات المسلحة فى معركة كانت من أصعب المعارك وأعقدها فى مواجهة الجيوش النظامية، فلم يستطع حتى الآن جيش نظامي على مستوى العالم أن ينتصر فى مثل تلك المعركة سوى الجيش المصري ، الأمر الذي حدا بالعديد من جيوش الدول الكبرى أن تحرص خلال التدريبات المشتركة على الاستفادة من التجربة المصرية فى حربها ضد الإرهاب.

لم تكن تلك الحرب غير التقليدية أمرًا سهلاً فمن المعروف أن الحروب غير النظامية تستهدف دائمًا استنزاف الجيوش وخلق حالة من الإحباط لدى الشعوب مما يكون له الأثر فى المعركة، ويؤدي فى النهاية إلى فشل الجيوش النظامية فى تلك المواجهة واستمرار العناصر الإرهابية المسلحة فى تكوين كيانات مستهدفة مؤسسات الدولة المختلفة، وهو ما حدث فى العديد من بلدان المنطقة بل فى عدد من دول العالم سواء فى آسيا أو إفريقيا فلم تستطع الفكاك من براثن الإرهاب أو تحقيق الاستقرار وإعادة بناء الدولة الوطنية.

لقد قدمت مصر فى تلك المعركة أكثر من 3000 شهيد وأكثر من 13 ألف مصاب.

الأمر لم يكن هينًا خاصة إذا كان المشهد فى تلك المعركة كاشفًا لحجم التمويل والدعم اللوجيستي لتلك العناصر من بعض الدول، وكان الهدف تركيع الدولة المصرية لكن دولة مثل مصر لا يمكن لها أن تركع أبدًا إلا لخالقها وتصدى الأبطال من رجال القوات المسلحة والشرطة لقوى الشر والإرهاب، وسطروا أعظم قصص البطولة والفداء لكي يأمن هذا الوطن ويستكمل مشروعه الوطني الذي نراه اليوم رغم التحديات يزداد قوة وصلابة.

(3) أعود إلى الأبطال فمن مثلث القيادة ثلاثة من أبطال القوات المسلحة (دفعة 2009)، جمعهم القدر فى يوم واحد ومشهد واحد يوم التخرج فى مثلث القيادة وهم يسلِّمون العلم لبعضهم البعض، وهم (الرائد الشهيد مصطفى حجاجي مساعد الدفعة 103 حربية، والرائد الشهيد محمد علي العزب مساعد الدفعة 104 حربية، والرائد الشهيد عماد الدين أبو رجيلة حامل العلم) وجميعهم استشهدوا فى سيناء وسجلت أسماؤهم فى سجلات الشرف.

إنهم رجال صدقو ما عاهدوا الله عليه، وكأنهم كانوا يرسلون من أرض طابور الكلية الحربية رسالة إلى العالم أنه شهيد يسلّم شهيدًا، فالثلاثة الذين جمعهم مثلث القيادة جمعتهم الشهادة على الأرض المباركة « سيناء » فداءً لهذا الوطن وهم يذودون عنه.

فقد استشهد الرائد بطل مصطفى حجاجي حلمي محمد فى 18 يوليو 2015 فى ثاني أيام عيد الفطر أثناء استهداف كمين أبو رفاعي فى سيناء، وهو نفس اليوم الذي تخرج فيه الشهيد من الكلية الحربية عام 2009 وكان الأول على دفعته 103 وصاحب التاريخ الكبير من التضحيات أثناء الحرب على الإرهاب فى سيناء.

كان دائم الحرص على تجميع أبناء دفعته من أجل المشاركة فى أعمال الخير، وكان من المفترض أن يعود إلى بلدته قرية «الشغب» بالأقصر فى إجازة العيد من أجل البحث عن شريكة حياته، لكن ذلك لم يتحقق ونال ما كان دائمًا يريد أن يناله وهي الشهادة.

فقد طلب نقله إلى سيناء خاصة بعد استشهاد المقدم أحمد الدرديري ابن مدينة إسنا المجاورة لقريته، الذي استشهد فى الهجمات الإرهابية التي استهدفت كمائن عدة بشمال سيناء فى 1 يوليو 2015 وطلب من قيادته أن يحل مكان الشهيد الدرديري بالكمين.

رفض إبلاغ أسرته بالذهاب إلى سيناء خاصة أنه كان قائدًا لسرية مشاة ميكانيكا بالقنطرة لكنه أبلغ اثنين من قريته وطلب منهما عدم إبلاغ أسرته حتى لا يزداد قلقهم عليه، وقال لهم نصًا «أنا الشهيد اللي عليا الدور».

فتسلم مكان الشهيد الدرديري لينال أيضًا الشهادة مثله.

وهكذا كان الشهيد العقيد أحمد المنسي الذي تسلم الراية من قائده العقيد رامي حسنين لينال أيضًا الشهادة وهو يذود عن تراب هذا الوطن.

ونستكمل مثلث القيادة فقد استشهد الرائد محمد علي العزب إثر انفجار عبوة ناسفة أثناء تمشيط بمنطقة كرم القواديس ب سيناء فى 23 فبراير 2016.

فقد ترك كلية الهندسة من أجل تحقيق حلمه منذ صغره بالالتحاق بالكلية الحربية، ويقسم يمين الولاء النصر أو الشهادة، ويبر بقسمه فينال الشهادة فداءً لوطنه.

وقت استشهاده كان «العزب» فى مأمورية تمشيط واكتشفوا وجود 3 عبوات ناسفة نجح بالفعل فى تفكيك اثنين منها والثالثة كانت الأصعب، ورفض الشهيد تدخل أحد الضباط لتفكيكها لأنه عريس جديد، وأصر على تفكيكها خوفًا على حياة زملائه لتنفجر العبوة ويلفظ أنفاسه الأخيرة.

أما الشهيد الرائد عماد أبو رجيل حامل العلم فى مثلث القيادة فقد استشهد البطل إثر انفجار حزام ناسف فى أثناء مشاركته للقوات تمشيط منطقة الباويطى بالواحات البحرية بتاريخ 31 مايو 2017 فى أول يوم من أيام رمضان ليذهب شهيدًا صائمًا.

لينحني الوطن إجلالاً لأرواح الأبطال وتغيب الشمس خجلاً من تلك الشموس.

إنه تاريخ من التضحيات والبطولة نستكمل فى العدد القادم عددًا آخر منها يكشف حجم ما قدّمه الشعب المصري وقواته المسلحة من أبطال، من أجل الحفاظ على الوطن.

أضف تعليق