غادة البشاري* تكتب: الحكواتي.. وسره الباتع

غادة البشاري* تكتب: الحكواتي.. وسره الباتعغادة البشاري* تكتب: الحكواتي.. وسره الباتع

* عاجل1-7-2020 | 13:50

لا أدري لِم لا أحب دور "الحكواتي" القديم , أشعر كأنه كان وسيلة لأيدولوجية ما, فبقدر ابداعه في طريقة إلقاء السيرة, الذي قد يصل إلى حد التمثيل صوتياً وحركياً, بقدر ما كان يُحدث هوة فسيحة بين عقل المستمع له , وأحداث تلك السيرة, وشخوصها...شيء أشبه بعملية فصل العقل عن الشعور.. إذ لا يمكنك وأنت تستمع له أن تتوحد بكامل عاطفتك ووجدانك مع أبطال السيرة , لأنه باختصار قد غرّبك عنهم, وجعلك تتخيلهم – لا كما هم – بل كما يراهم هو .. أو بالأحرى ..يراهم أولئك. الأمر يتعلق بفلسفة خاصة بي وحدي .. ربما جعلتها مدخلاً أتحايل به على ارتباكة ذهني وهو يستهل مقال اليوم. صفحات التاريخ بدأت تنبؤ من جديد بكارثة سردية حقيقية... وهاهو الحكواتي يشرع في سن لسانه.. وتسليك ضميره ليكون أداة لإنصاف مزعوم، لا يسد حاجتنا من القناعة ، وسندًا لبطولات واهية، لا تختلف كثيرًا عن بطولة فزاعة الحقول. أظنها ورطة كبيرة لمؤرخ هذا الزمن... " المؤرخ الحقيقي " ... وليس ممن يسطرون رواسبهم الفرويدية داخل مناهج التاريخ الآن .. لقد مرت على البشرية أزمنة عديدة سعت في ظلمة الأحداث فأطالت السعي، وامتد بها القدر غير آمنة من عبث شططه، فكانت حروب التوالي على سدة الخلافة، ثم غزاة المشرق والمغرب من كل الأطياف المستعمرة، والحرب العالمية الأولى وحرب فيتنام والعالمية الثانية،و الحروب الباردة، و جائحات الإنفلونزا الأسبانية، والجدري، والملاريا، والتيفويد و الكوليرا..و..و.. غير أننا نتلفت حولنا فلا تزدحم فينا سوى ليالي عصرنا هذه، كثيفة الإظلام، بل إننا نرى ظلماتها تكاد تدعو بعضها بعضًا. إننا نفقد الكثير من ذواتنا ،ومعتقداتنا، وهيبتنا الفكرية والسلوكية كلما أصبنا بنوبة دوار الأعوام المتلاحقة، ، تماماً كعملية تعاقب العصور ، فهي عملية كفيلة بان تهدم كل القيم الناظمة لأي مجتمع، وشؤون حياته، وتبدلها بقيم جديدة، تروج لها مصالح الأغلبية، ومتطلبات التوافق مع المجتمع الذي تم تحديث منظومته، واستغلال ثغوره في ترويض مقوماته، بما يقتضيه حال واقعه. ما أود أن أقول .. أن ماء الحياة المتسرب من بين أصابعنا مع كل عصر يموت؛ لا يمكن استعادته مرة أخرى، وإن ظلت بعض خواصه عالقة في أيدينا، بحكم الجينات الموروثة جبريا. يجب أن نؤمن بهذه الحقيقة، ونتمعن بها جيدًا ونحن نتصفح أخبار الصباح البائسة ؛ حتى نتمكن من إبطال قداسة العبارة المستهلكة بين الليبين الآن.." يا يوم من أيامك يا معمر " كم يبدو الأمر مربكًا على نحو عظيم، الكتابة على أجنحة التاريخ في أزمنة كهذه ، أشبه بترجمة نص هيروغليفي على لوح حجري ضارب في القدم، أتذكر ذلك البدويّ " العمدة " كما يلقبونه زملاؤه، زعيم سائسي الخيل، والخبير أكثر مما يجب في شؤون العائلة الفرعونية، الذي رفض أن نعتلي على عرش "حنطوره " في جولة حول الهرم العام الفائت، قبل أن يستلم أتعابه مقدمًا. إنه يشعر في قرار نفسه أنه يعرف كل الأسرار المخبوءة بين تلك الصخور الهرمية، ويكاد يسمع هميس فراعنتها، و ضحكاتهم، بل ويشاركهم أحيانًا مسامرتهم في أعقاب الليالي الباردة...لذا فإن العلامات الفرعونية في نظره تحتاج فقط بعض النباهة منه ليفك شيفرتها... غير أنه في حقيقة الأمر لا يعرف سوى مصادرة دماغك ، وإيداعها بكم من أحاديثه السمجة ، ثقيلة الوقع على النفس، طوال الجولة... إنه حكواتي الفراعنة وسره الباتع. الجميع يعلم... الجميع يمتطي المنصات .. لكن أحدًا لا يعرف ماذا عليه أن يعرف.. وأنت تقرأ الأحداث من حولك طوال السنوات الفائتة، وتحاول أن تعاقل ما ظهر منها وما بطن، تجدك تقف، مشدوهًا، مذعورًا، تغيب عن الوعي للحظات بين صفحة - صفعة - وأخرى، مثل دابة منقادة نفقت على الطريق فجأة ، وقد تصاب بلوثة فكر تحيلك إلى سيلان كلامي بلغة مبهمة . أحيانًا يزورك خيال مجنح وأنت في مرقبك، تشاهد مراسم الاجتماعات والمؤتمرات والمبادرات التي تُبرم لتكبيل الأزمة، لا لهديها إلى قصد السبيل، فتظن أنك الوحيد الذي تفهم خبايا اللعبة، وأسرار النجاة من مزالقها، وأن عقلك وحدك ما بوسعه النفاذ إلى مالا تنفذ إليه عقول غيرك؛ لذلك تتمنى لو استعانوا بنباهتك، وحكمتك في اجتياز أحد الأدوار، ثم ما تلبث أن تفور غيظًا وهم يفسدون عليك ما دبرت، ويقوضون رؤيتك ، وتقتادهم جهالتهم خارج عبقرية منطقك.. فتهبّ صائحًا: " مش قتلكم.. والله مانكم فاهمين شي ". يا الله ..كم أشفق على مؤرخ هذا الزمان .. إنه يحتاج لاستعارة عدة عقول ليجتاز كل هذا السخف ، ويعبر محنته بسلام. ………………………………… * أديبة وشاعرة وكاتبة ليبية
    أضف تعليق

    إعلان آراك 2