إيهاب الملاح يكتب: محمد سلماوي في مذكراته (1)

إيهاب الملاح يكتب: محمد سلماوي في مذكراته (1)إيهاب الملاح يكتب: محمد سلماوي في مذكراته (1)

*سلايد رئيسى6-12-2017 | 15:56

[caption id="attachment_87530" align="alignright" width="1167"] مذكرات محمد سلماوي يومًا أو بعض يوم[/caption]

لم يكن التجمع الحاشد، الكبير، الضخم الذي شهده مجمع الفنون، بقصر عائشة فهمي بالزمالك، أمس الثلاثاء، مجرد حفل توقيع لكتابٍ جديد، يعرض سيرةَ شخصية عامة مؤثرة لها وزنها وقيمتها وإنجازها الكبير، بل كان أيضًا -وفي ظني- تمثيلا دقيقا لبعض ما تناوله الكتاب وجلّاه عن تكوين وتحليل طبقة اجتماعية فريدة، ومكون محوري في التركيبة المصرية خلال القرنين الأخيرين.

أتحدث عن حفل إطلاق وتوقيع مذكرات محمد سلماوي؛ المعنونة بهذا الاسم البديع «يوما أو بعض يوم ـ مذكرات (1945-1981)»، الصادرة أخيرا عن دار الكرمة للنشر والتوزيع. محمد سلماوي، اسم غني عن التعريف؛ غني باعتبار الشهرة، والتاريخ، والمناصب التي تقلدها، والكتب التي ألفها، والحضور والنشاط الثقافي الذي مارسه لما يقترب من نصف القرن (منذ التحاقه بالأهرام عام 1970 حتى الآن).

في التعريف بهذه المذكرات أو السيرة الذاتية؛ كتب محرر الدار على ظهر الغلاف:

"عاش محمد سلماوي، أحد رموز الثقافة والصحافة في مصر والوطن العربي، حياة حافلة، حيث ولِد في أسرة مصرية ميسورة في أواخر الحقبة الملكية، وتفتَّحت مداركه مع قيام ثورة يوليو 1952، وحصل على الشهادة الثانوية في مرحلة المد الثوري الناصري، ليشهد خلال دراسته الجامعية انتصارات الثورة وانكساراتها، وعُرضت أولى مسرحياته قُبيل حرب يونيو 1967، ثم عايش المرحلة الساداتية، وتفاعل مع تقلُّباتها من خلال الكتابة الصحفية والنشاط السياسي الذي أدى به إلى الاعتقال أثناء انتفاضة يناير 1977".

ويختم فقرته التعريفية بالكتاب بالإشارة إلى أن محمد سلماوي "يكشف في سيرته الذاتية البديعة «يومًا أو بعض يوم»، بأسلوب مُمتع، وتفاصيل شيقة، عن كثير من التفاصيل غير المعروفة لبعض أهم الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والثقافية التي شكَّلت عالمنا خلال أهم عقود القرن العشرين، مصحوبة بأكثر من 150 صورة من أرشيفه الشخصي والعائلي، تُشكِّل لوحة حية لمصر من بعد الحرب العالمية الثانية وحتى مقتل السادات".

ولأن إطلاق الكتاب وصدوره جاء بالأمس فقط، وهو كتاب ضخم يقع في 430 صفحة من القطع الكبير، فلم يتسنَ إلا لقليلين جدا أن يتمكنوا من قراءته كاملا في صورته المخطوطة الأولى، قبل ظهوره، ومنهم وزير الثقافة الحالي، الكاتب الصحفي القدير، حلمي النمنم، ووزير الثقافة الأسبق، الأستاذ الدكتور جابر عصفور، وهو الناقد البارز والأكاديمي المرموق.

ويحق لي أن أفخر بأنني كنت من القلة التي قرأت مخطوطة هذا الكتاب، قبل ما يزيد على العام في صورته الأولى، وأبديتُ حينها حماسي الجارف لهذه السيرة التي رأيت فيها واحدة من أهم السير الذاتية التي ظهرت في المكتبة العربية خلال العقد الأخير، وأنا لا ألقي بهذا القول، هكذا، على عواهنه دون دليل؛ أبدًا..

فمنذ شرعتُ في قراءة المخطوط لم أتركه إلا بعد الفراغ من فصوله الستة عشرة كاملة، وتسجيل العديد من الملاحظات، واستخراج الكثير من الفقرات والاستشهادات الدالة، كل ذلك فضلا على الكنز البصري المصاحب لنص المذكرات وهو ما لا يقل عن 150 صورة فوتوغرافية نادرة من أرشيف صاحب السيرة؛ وكلها مهم، وكلها قيم، وكلها يلعب دورًا رئيسًا في إبراز دلالة السيرة الكلية، وتجسيد أحداثها ووقائعها وتأكيد مصداقيتها وتحررها إلى حد كبير من التحفظات الملازمة لمثل هذا النوع من الكتابة في ثقافتنا العربية.

ووجدتني دون سابق تحضير، أو تجهيز بحث، أسجل في أوراقي ضرورة تأطير هذه السيرة ضمن مدونة السير الذاتية العربية وأدب الاعترافات والمذكرات الشخصية في القرن الأخير، وأنني لا بد أن أتتبع -ولو سريعا.. ولو بالإشارة- أسلاف هذه المذكرات منذ بداية القرن العشرين وحتى الآن، دون أن يعني ذلك التوفر على الحصر والإحصاء والاستقصاء أبدًا.. بل لمجرد تأطير وتأصيل وضعية هذه المذكرات بين مثيلاتها.

وأتصور أن هذه المذكرات ستحظى باهتمام كبير، وستشغل الناس لفترة طويلة؛ لأسباب عدة؛ من أهمها:

أولا: السلاسة والانسيابية التي كتبت بها، فلا تقعر ولا إغراب ولا استعراض، الوصول إلى المعنى من أقصر الطرق وأكثرها مباشرة، ولعل أحد الدوافع وراء هذه الانسيابية التي منحت النص حيوية وتدفقا وجعلت قراءته متعة حقيقية، هو تحرر كاتبها من مشكل "الشكل"، ولا لم يكن معنيا أو مشغولا بالبحث عن "القالب" أو "النوع الأدبي" قدر انشغاله باستحضار الوقائع وتسجيلها بحرية تامة.

ثانيا: وكما رصد بدقة الدكتور جابر عصفور، حفاظها على الإيقاع التشويقي وإثارة فضول القارئ، فإذا كان د.عصفور قد انتهى من قراءتها في ثلاث ليال على ضخامة حجمها، فإنني قرأتها تقريبا مرتين، وفي مدى زمني يقترب من الليالي الثلاث أو يزيد عليها ليلة أو اثنتين في القراءة الأولى، ولم تكلفني القراءة الثانية سوى ليلة واحدة فقط للفراغ من نصفها وليلة أخرى للنصف الآخر!

ثالثا: من بين فصول الكتاب الستة عشرة، ثمة فصول سيتوقف قارئها أمامها طويلا، وسيحبذ معاودة قراءتها أكثر من مرة؛ على سبيل المثال الفصل السابع المعنون "حواديت الدور السادس"، وهو فصل بديع بسيط لكنه جميل في سرد تفاصيله؛ يحكي فيه سلماوي عن ذلك الطابق الأشهر في تاريخ الصحافة المصرية، الذي ضم كبار كتاب مصر والأهرام في القرن العشرين؛ توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف إدريس، صلاح جاهين، زكي نجيب محمود، لويس عوض، حسين فوزي.. وآخرون.

ومثال الفصل الثاني عشر "مفكرتي الحمراء وغرفة الإعدام"، الذي يتناول جانبا من تجربة السجن القاسية وتفاصيلها الموجعة المؤثرة.

رابعا: ما تمثله المذكرات من كنز حقيقي، ثري، مبهر للباحثين في علوم الاجتماع والثقافة والاقتصاد والتاريخ السياسي والعام، خاصة الفصول الخمسة الأولى التي قدم فيها سلماوي عرضا وتحليلا فائق الروعة لشريحة مهمة من المصريين، وطبقة اجتماعية واقتصادية لعبت أدوارها في التركيب الاجتماعي والثقافي للمصريين.

خامسا: لفتني كثيرًا الدقة والبساطة اللتين كان يرصد بهما سلماوي طبيعة هذه العلاقات التي تربط بين أبناء العائلات الأرستقراطية، وتحليله السلس لكثير من أنماط السلوك والتربية وطرائق المعيشة ودوافع المصاهرة، فضلا على الحضور المتوهج المتألق لنماذج نسائية مشرفة، كلهن تقريبا تلقين قدرا وافرا ورفيعا من التعليم وتشربن آداب السلوك والتصرف، وتكونت لهن بفضل نشأتهن وتكوينهن وتعليمهن ذائقة رفيعة في كل شيء؛ بدءا من الأناقة اللافتة، والتحضر السلوكي؛ وصولا إلى ممارسة الإبداع وتلقيه في أشكاله المختلفة.. وهذه الجزئية وحدها في حاجة إلى تحليل مستفيض سيأتي في مكانه.

- وأخيرا.. لا يفوتني -في هذا المقام- أن أشير إلى نجاح الكرمة -كدار نشر واعدة ومتميزة وصاحبة رؤية حقيقية- في اصطناع أسلوب احترافي غاية في الجمال والإتقان والظهور لمنشوراتها، وفق إطار عام ورؤية كلية، وبخاصة في دائرة كتب المذكرات والسيرة الذاتية والتجارب الإنسانية..

من البداية، والكرمة تصطنع منهجًا واضحًا في هذه النوعية تحديدا من الكتب؛ بدءا من اختيار النص، والأهمية التي يتضمنها (في الغالب يتصل اتصالا وثيقا بالحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية لمصر في القرن العشرين)، ولصاحب السيرة وخصوصية تجربته.. كل ذلك فضلا على تصميم الغلاف والقطع والإخراج الفني الداخلي وتوزيع الصور وردها إلى مصادرها في إشارة دالة على احترام حقوق الملكية الفكرية، وأظن أن الكرمة من الدور التي تعد على أصابع اليد الواحدة التي تحترم هذه الحقوق شكلا ومضمونا..

وأظن أيضا أنها بما راكمته من عناوين في هذه الدائرة نجحت في أن تبرز شخصيتها وبصمتها الأسلوبية؛ منهجا وإخراجا وتصميما، خذ عندك: نص المذكرات الصادرة أخيرًا «يوما أو بعض يوم ـ مذكرات محمد سلماوي»، «كنت صبيا في السبعينيات ـ سيرة اجتماعية وثقافية» لمحمود عبد الشكور، «مكتوب على الجبين ـ هوامش على السيرة الذاتية» لجلال أمين، و«مشارف الخمسين ـ موجز عن حياة» لـ إبراهيم عيسى.. إلخ أو ما يتضمن تجربة ذاتية خاصة مثل كتاب علاء خالد «مسار الأزرق الحزين»، أو «رحلة يوسف» لـ سامح فايز، أو نصوص النوستالجيا الفريدة التي برع فيها عمر طاهر في كتابيه «إذاعة الأغاني ـ سيرة شخصية للغناء» و«صنايعية مصر».. ومثل كتاب رحاب خالد المرجعي الفخم «نجاة الصغيرة».. إلخ

إن هذا الاعتناء الفني خلق مكافئا بصريا شديد التميز والحضور وحقق جمالية مضافة للنص السردي، وجسد بامتياز الكثير من وقائع السيرة وأحداثها وشخوصها وأعطاها مذاقًا خاصًا، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إن الكرمة صارت رائدة في هذا الاتجاه الإخراجي الجمالي لنصوص السيرة الذاتية والمذكرات.. وهو ما ظللنا نفتقده بشدة في صناعة النشر المصرية إلا باستثناءات تعد على أصابع اليد الواحدة (دار الشروق مثلا).

وما زالت مذكرات سلماوي «يوما أو بعض يوم» تغري بالمزيد..

وللحديث بقية إن شاء الله..

أضف تعليق

تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2