الحرب التى ينتظرها الإعلام.. لن تبدأ

رغم برودة الشتاء فى أوروبا وشمال المتوسط إلا أن سخونة الأحداث كانت كفيلة برفع درجة حرارة العالم ليس كأحد أعراض سلالات فيروس كوفيد 19 وإنما نتيجة التصريحات القادمة من موسكو وأو كرانيا والاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية.

كانت المخابرات الأمريكية قد حددت فى تصريحات سابقة على لسان أحد مسؤوليها أن الحرب قائمة لا محالة وأن روسيا تستعد لاجتياح أو كرانيا منتصف شهر فبراير الجاري، إلا أن عملية الاجتياح الروسى لـ «كييف» مازالت تقف عند حد البيانات والتلاسنات والاتصالات الهاتفية والتصريحات الإعلامية.

أشار إلى ذلك الرئيس الأمريكى جو بايدن الخميس الماضى للصحفيين قائلًا: «إن خطر أن تغزو روسيا أو كرانيا خلال الأيام المقبلة مرتفع للغاية».

فى الوقت ذاته أعلنت موسكو أنها سحبت جزءًا من قواتها عقب انتهاء المشروع التدريبى الذى كانت تقوم به، واعتبر بايدن التحركات الروسية مناورة لاجتياح أوكرانيا.

وعقب تصريحات بايدن دأبت وسائل الإعلام الأوروبية على إبراز وجهة النظر الأمريكية والتى تبنتها أوروبا فى مواجهة موسكو والتأكيد على أن الأخيرة تتحرك باتجاه عملية الغزو المرتقبة.

يحرص الإعلام بطبيعة عمله على متابعة تفاصيل ما يحدث على الأرض، لكنه فى تلك المعركة انجرف بقوة ليصبح أحد أقوى أسلحتها فى مواجهة الأسلحة التقليدية.

تحولت وسائل الإعلام لدى الجانبين إلى أدوات بشكل غير مباشر فى أيدى المسؤولين السياسيين والعسكريين، فتتلقف التصريحات من الجانبين، وتدفع بالمحللين لتوضيح المشهد وتوقع ما قد يحدث أو تحمله الأيام القادمة من أحداث.

(1)

يبدو أن المشهد سيقودنا إلى جولة من الحرب الباردة يكون فيها الإعلام هو اللاعب الأساسى بالإضافة إلى الحرب الإليكترونية (السيبرانية)، أما حرب المواجهة التقليدية فدعونى أؤكد لكم وللمرة الثانية أنه لن تقع مواجهة عسكرية مباشرة بين الناتو و موسكو خلال الفترة الحالية أو خلال السنوات القليلة القادمة؛ وهذا ليس قراءة للطالع ولكن هناك مقدمات وأسباب كثيرة تقف وراء تأخر مثل تلك المواجهة.

لقد أكدتُ فى السادس من فبراير الجارى فى مقال بعنوان (الحرب السيبرانية والأزمة الأوكرانية) أن الحرب التى من المحتمل حدوثها هى هجمات سيبرانية موجهة لضرب الاقتصاد الأوكرانى أو مؤسسات الدولة السيادية مثل وزارة الدفاع الأوكرانية أو محاولة إحداث شلل تام فى المجال الجوى الأوكراني، وهو ما حدث بالفعل الثلاثاء الماضي، فى الوقت الذى كانت تتحدث عنه الولايات المتحدة فى مجلس الأمن الدولى وحددته لقيام الحرب الشاملة (التقليدية) واجتياح الروس العاصمة الأوكرانية (كييف).

تعرضت الثلاثاء الماضى وزارة الدفاع الأوكرانية وعدد من البنوك ومواقع الإنترنت فى كييف لهجمات سيبرانية، وجاء الإعلان الصادر عن هيئة رقابة الاتصالات الأوكرانية ليؤكد أن الهجوم قد طال موقعى مصرف الادخار الحكومى «أوشاد بنك» و«بريفات24»، وهما من أكبر مؤسسات الدولة المالية، وأفادت الهيئة أن «بريفات24» تعرّض لـ «هجوم ضخم يستهدف حجب الخدمة».

توقف ما لا يقل عن 10 مواقع إلكترونية أوكرانية عن العمل بسبب هجمات الفيروس الإلكترونى «دي. دي. أو. إس»، بما فيها مواقع خاصة بوزارات الدفاع والخارجية والثقافة، كما ظهرت رسالة على موقع وزارة الدفاع تشير إلى أنه معطّل و«يخضع لصيانة تقنية».

فى غضون ذلك، كانت موسكو وبلاروسيا تواصلان التدريبات العسكرية المشتركة «حزم الاتحاد 2022» فى المنطقة الجنوبية والغربية من الحدود الأوكرانية، وهو ما كانت تعتبره الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا أحد سيناريوهات الخداع الاستراتيجى الروسى للانطلاق نحو اجتياح أوكرانيا.

ولكن ما حدث هو انتهاء التدريبات وإعلان موسكو عودة القوات المشاركة فيها إلى مواقع تمركزها.

(2)

المشهد الذى حدث قبل أسبوعين من جانب الولايات المتحدة الأمريكية خلال جلسة مجلس الأمن عاد ليتكرر مرة أخرى الخميس الماضى فى الجلسة التى عُقِدت بشأن الأزمة الأوكرانية، فجاء إعلان وزير الخارجية الأمريكى «أنتونى بلينكن» أن بلاده لا تستهدف بدء الحرب، ولكنها تستهدف منع وقوعها، وأنه قَدِم إلى المجلس من أجل ذلك، وأن روسيا تخطط لاختلاق ذريعة لشن هجوم على جارتها، وقد تشمل هجومًا وهميًا أو حقيقيًا باستخدام مواد كيميائية».

لم يختلف حديث «بلينكن» كثيرًا عن حديث «ليندا توماس جرينفيلد» سفيرة واشنطن فى الأمم المتحدة قبل أسبوعين، لتواصل واشنطن على أن الحرب الشاملة قائمة لا محالة، لتدفع معها دول حلف الناتو لمواجهة موسكو خارج الأراضى الأمريكية.

سبق حديث بلينكن تصريحات بايدن وكذلك حديث وسائل الإعلام الغربية والأمريكية عن عملية طرد نائب رئيس البعثة الأمريكية (DCM) إلى روسيا بارت جورمان، ويعد «جورمان» ثانى أكبر مسؤول فى السفارة الأمريكية فى موسكو بعد السفير وعضوًا رئيسيًا فى القيادة العليا بالسفارة.

أعلنت واشنطن أنها سترد على القرار الروسي، الذى اعتبرته وسائل الإعلام الغربية والأمريكية على وجه الخصوص خطوة قوية باتجاه بدء الحرب، ولم تتعرض الصحف الغربية لملف طرد الدبلوماسيين بين موسكو وواشنطن خلال السنوات القليلة الماضية وما شهده من تطورات.

شهدت عملية طرد الدبلوماسيين بين موسكو وواشنطن تطورات كبيرة العام الماضي، كان آخرها فى نهاية شهر ديسمبر 2021، عندما أعلنت المتحدثة باسم الخارجية الروسية، «ماريا زاخاروف» أنه بحلول 31 يناير2022، يجب على موظفى السفارة الأمريكية الذين كانوا فى موسكو لأكثر من ثلاث سنوات مغادرة البلاد.

وشددت على أن هذا لم يكن اختيار روسيا فقد «فرضت الولايات المتحدة لعبة مماثلة» فى عام 2020، إذ حددت وزارة الخارجية الأمريكية من جانب واحد مدة ثلاث سنوات لبعثات العمل لموظفى السفارة الروسية فى واشنطن والقنصليات الروسية العامة فى نيويورك وهيوستن، الأمر الذى يدلل على أن لعبة إنهاء عمل الدبلوماسيين والسفراء بين البلدين ليس لها علاقة بالأزمة الحالية بين موسكو وكييف.

(3)

عقب انتهاء المناورات العسكرية بين روسيا وبلاروسيا وعودة القوات المشاركة فيها إلى مناطق تمركزها الأصلية، سخِرت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروف، من تقارير وسائل الإعلام الغربية التى حددت موعدًا للغزو الروسى ضد أوكرانيا.

ذكرت زاخاروف عبر حسابها على فيسبوك: «نرجو من وسائل التضليل الإعلامى الأمريكية والبريطانية مثل بلومبيرغ ونيويورك تايمز وذا صن وغيرها نشر جدول الغزوات الروسية لهذا العام، أود أن أخطط لقضاء إجازة».

كما أعلن الناطق باسم الكرملين دميترى بيسكوف أن «روسيا لا تخطط لرفع دعاوى قضائية ضد وسائل الإعلام التى كتبت تقارير مزيفة عن غزو وشيك مزعوم لأوكرانيا، وتترك للقراء تقييم هذه الأنباء».

فى ذلك الوقت كانت واشنطن قد نقلت عددًا كبيرًا من القوات والأسلحة والمعدات العسكرية والعتاد إلى دول جوار أو كرانيا مثل بولندا بحسب المتحدث باسم الجيش الأمريكي.

وينتشر بالفعل فى بولندا نحو 4,600 جندى من الفرقة الأمريكية الثانية والثمانية المجوقلة والمتمركزة عادة بقاعدة نورث كارولينا؛ ومن المتوقع أن يساعد 4,700 جندى فى المجمل من القوات الأمريكية فى مراقبة حدود بولندا مع أوكرانيا.

كما ذكر وزير الدفاع البولندى ماريوش بلاشتاك أن القوات الأمريكية ستتمركز فى الجزء الجنوب الشرقى للبلاد، إلى جانب 350 من قوات مشاة البحرية الملكية التى تقوم بريطانيا بإرسالها.

فى الوقت ذاته، اتهم نائب سكرتير مجلس الأمن الروسي، ميخائيل بوبوف، وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) بأنها تنفق ما بين 4 و5 مليارات دولار سنويًا من الميزانية العسكرية الأمريكية منذ عام 2014 على البرنامج المناهض لروسيا «ردع العدوان فى أوروبا»، والذى يستهدف البرنامج تكوين صورة الولايات المتحدة على أنها صانعة سلام.

ووفقًا للمسؤول الروسي، فإن الرد على تهديدات من هذا النوع يتطلب من روسيا تخصيص موارد مالية، والتى كان يمكن توجيهها لتحقيق مزيد من التنمية فى روسيا.

إن تسارع الأحداث وسخونتها إعلاميًا وليس عسكريًا يدلل على أن الحرب المنتظرة من وسائل الإعلام (الحرب العالمية الثالثة) لن تحدث، خاصة أن تأجيج الأزمة إعلاميًا من جانب واشنطن وبريطانيا وعدد من دول حلف الناتو لن يسفر عن استصدار قرار من مجلس الأمن حاليًا بفرض عقوبات ضد موسكو فى ظل تحالف الأخيرة مع الصين.

إن الحرب المرتقبة إعلاميًا قريبًا ما ستخمد نيرانها بإعلان كييف عزمها على وقف طلب الانضمام إلى حلف الناتو وهو ما سيجعل موسكو تطمئن أكثر وتأمن الزحف الغربى باتجاه أراضيها.

كما أن بوتين يدرك الفخ الأمريكى وهو ما أشار إليه عندما قال: «إن أو كرانيا بالنسبة للولايات المتحدة مجرد أداة للوصول إلى هدفها باحتواء روسيا وجرها إلى «صراع مسلح».

يبدو أن الأحداث على الحدود الأوكرانية مع موسكو استطاعت أن تعيد إنتاج فصل جديد ومهم من الحرب الباردة الثقافية (من الذى يدفع للزمار) بحسب وصف الكاتبة الإنجليزية «فرانسيس ستونر سوندرز» فى كتابها الصادر عام 1999 والذى كشفت فيه عن الدور الذى لعبته الثقافة والفنون والآداب والإعلام لتفكيك الاتحاد السوفيتي، وتقديم صورة السلام الأمريكى على أنها مصدر الأمن والاستقرار والحرية.

فما ذكره نائب سكرتير مجلس الأمن الروسى متهمًا به البنتاجون يؤكد أن حرب المواجهة التقليدية لن تحدث، ولكن يمكننا أن نستعد لاستقبال حرب تُزهق الأرواح بدون رصاص.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
تسوق مع جوميا

الاكثر قراءة

إعلان آراك 2