لقد ارتفعت أصوات كثيرة تنادى ضرورة التصدى للانحرافات وبناء المجتمع على الحب والإخاء.. وألا نغمض أعيننا على أخطائنا.. فالخطأ هو أن نسكت على الخطأ أو نتمادى فيه.
يجب أن نرفع رؤوسنا من الرمال لنكتشف الانحرافات من حولنا ونواجهها بشجاعة، بغرض تقويمها أو القضاء عليها.
وإذا كان أكتوبر قد حقق لنا انتصارًا على العدو، وأكد كياننا ووجودنا كأمة عريقة.. فلابد فى الوقت نفسه أن يكون انتصارا لنا على أنفسنا، وأن نثبت ذاتنا خالية من الشوائب والأخطاء.. حتى نحقق المجتمع الأفضل.
فما هى الانحرافات، وأين توجد، وما السبيل لعلاجها؟!
الانحرافات: أخطاء مجموعة من المواطنين ترى عدواها فى كيان المجتمع.. فتصبح ظاهرة خطيرة تحيد بنا عن الطريق المستقيم، وهى تنشط فى الظلام وفى الدهاليز بعيدًا عن النور، وعن الطريق السليم الذى يسير فيه المجتمع.
الرشوة مثلاً.. أليست الرشوة هى أهم قضايا الانحراف؟ بل أصبحت الآن قضية يجب أن تناقش بصراحة وشجاعة على مختلف المستويات، و الرشوة جريمة، وجريمة غالبًا ما تتم فى الخفاء بين اثنين.. صاحب مصلحة وموظف مشرف على قضاء هذه المصلحة، وقد يتدخل ثالث ويعتبر وسيطًا.. مقدم الرشوة يسمى راشيًا.. والموظف يسمى مرتشيًا.. وكلا الطرفين ملعون فى الدين، منبوذ من المجتمع، ويمثلان عنصرين مريضين فى المجتمع.
ويجب ألا نخلط بين الهدية والرشوة، فالهدية هى منحة أو هبة تقدم دون غرض وباسم الأخوة أو الصداقة أو الحب.. لا ترتبط بمصلحة معينة، فإذا كانت لغرض اندرجت تحت اسم الرشوة، وإذا كانت لوجه الله سميت صدقة يثاب عليها بعشرة أمثالها.
يقول الراشى: ماذا أفعل وأنا أجد أمامى الأيدى ممدودة الأفواه مفتوحة، تطالب همًا أو جهرًا بالرشوة.. وإلا فلن تقضى مصلحتى تحت اسم «الروتين» أو عندما يجىء الدور أو فوت علينا بكره أو بعده أو بعد شهر.. ويزيد الراشى فى تبرير فعلته بأنه رجل قادر.. وما دام قادرًا فلماذا لا يدفع القليل لينجز الكثير من مصالحه، بدلاً من ضياع وقته هباء فى انتظار الدور.
رزق من السماء!
ويقول المرتشى، وهو يربط عادة فعلته بظروفنا الاقتصادية وبغلاء الأسعار وبقلة مرتبه وكثرة عياله، ويبرر الرشوة بأنها شىء هبط عليه من السماء، ويفاجأ به من صاحب المصلحة داخل مظروف أنيق ومدسوسًا فى جيبه أو فى درج مكتبه.. مستحلفًا إياه ألا يرده، ويتساءل المرتشى.. ماذا أفعل؟ هل أمنع هذا الرزق الذى هبط على؟ إنه رزق أولادى وبيتى، ويزيد فى تبرير الرشوة بأنه ليس الوحيد – من بين الموظفين – الذى يرتشى، وكأنه يصم جميع زملائه بهذه الوصمة.
وأحيانًا يزهو ويفخر بهذا الفعل ويقول إن الرشوة «فهلوة وجدعنة وشطارة» ولا يفعلها إلا كل موظف مفتح.. ولكنه يتهم جميع الشرفاء بعدم «الفهلوة والجدعنة» ويضيف أن الرشوة اليوم أصبحت هى المصدر الوحيد لزيادة دخل الموظف.
رأى الدين
أما رأى الدين.. فيقول فضيلة الشيخ عبد الرحمن النجار المدير العام بوزارة الأوقاف: إن الإسلام جعل الأموال والأبناء زينة الحياة الدنيا، وهو لا ينهى عن المتاع بالزينة فى حدود الحلال.. إنهما زينة ولكنهما ليسا بقيمة.. فلا يجوز أن يوزن بهما الناس ولا أن يقدروا على أساسهما فى الحياة، وإنما القيمة الحقيقية للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال وفعل الخيرات، وهذه الباقيات هى الخير المدخر للإنسان وهى الأمل الذى تتعلق به القلوب ويناط به الرجاء ويرتقب المؤمنون نتاجه يوم الجزاء.
ويؤكد فضيلة الشيخ النجار أن المال المحبوب فى نظر الإسلام هو الذى يكسبه صاحبه من طريق بذل الجهد والعمل الدائب المهذب للروح والمقوى للجسد، لكن بعض الناس يريد أن يحصل على المال من غير هذا الطريق المشروع.. كأن يكون فى موقع من مواقع المسئولية، أو فى مكان يؤدى فيه خدمة عامة للمواطنين.. لكن خلقه غير قوى ونفسه ليس لها سمو.. فهو ينتهز فرصة وجوده فى منصبه، ويمد يده لقبول بعض الأموال من أصحاب الحاجات نظير ما يقدمه لهم من خدمات، وهى أساسًا من المفروض عليه أن يؤديها بحكم وظيفته، ومن امتدت يده مرة امتدت مرات، وفتح فمه ليدخل فيه المزيد من الأموال.. والحرام يجر الحرام، وأصبح شأنه كما يقول القائل:
كالحوت لا يلهيه شىء يلقمه يصبح ظمآن وفى البحر فمه!!
إن هذا المال الذى يأخذه يسمى فى نظر الدين رشوة، وقد لعن رسول الله الراشى لأنه كان الأداة التى نفذت الرشوة.. كما لعن المرتشى لأنه أخذ مالاً بغير حق، وقد يكون هذا المال مقتطعًا من أموال يتامى يقوم على شئونهم راعيًا لهم، والذى يأمل شيئا من مال يتيم.. كأنه وضع نارًا فى جوفه.. كما قال القرآن الكريم:
«إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».
إن أخذ الرشوة يعتبر غشًا للمجتمع، وغشًا للنفس الإنسانية.. فهى قذارة ضمير ونزع لعوامل الثقة بين الجماهير، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا يكسب عبد مالاً حرامًا فيتصدق منه فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره.. إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن.. إن الخبيث لا يمحو الخبيث).
فى عهد الرسول i
يستشهد الشيخ النجار عن رشوة مقنعة حدثت فى عهد الرسول، صلوات الله عليه وسلامه، ظن صاحبها أنها هدية.. ولكن الرسول أدانها واعتبرها رشوة، وسجل عقابها الأليم لمن أعطى ولمن أخذ.
فقد حدث أن النبى عين رجلاً يقال له: «ابن الليبيبة» مأمورًا للضرائب، ليجمع الصدقة، ثم قدمها للرسول قائلاً: هذا لكم وهذا أهدى إلي، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال «أما بعد.. فإنى أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله.. فيأتى فيقول هذا لكم وهذه هدية أهديت إلي.. أفلا جلس فى بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقى الله يحمله يوم القيامة.. فلا أعرفن أحدًا منكم لقى الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر، ثم رفع يديه حتى رأى بياض إبطيه.. يقول: اللهم هل بلغت».
رأى القانون
أما قانون العقوبات فيتناول فى بابه الثالث موضوع الرشوة فى 17 مادة.. تبدأ بالمادة 103 وتنص على «أن كل موظف عمومى طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته.. يعد مرتشيا ويعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه، ولا تزيد على ما أعطى أو وعد به».
وتعاقبه المادة 103 مكرر بنفس العقوبة حتى إذا أخذ رشوة لأداء عمل يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته.
أما المادة 104 فتعاقبه بالأشغال الشاقة المؤبدة وبضعف الغرامة أى بألف جنيه إذا أخذ رشوة أو وعد للامتناع عن عمل من أعمال وظيفته، أو الإخلال بواجباتها.
وتعاقبه المادة 104 مكرر بعقوبة الرشوة، حتى لو كان يقصد عدم القيام بذلك العمل أو عدم الامتناع عنه أو عدم الإخلال بواجباته الوظيفية.
وتعاقب المادة 105 الموظف العمومى إذا قبل من شخص أدى له عملا من أعمال وظيفته، أو امتنع عن أداء عمل من أعمال أو أخل بواجباتها، هدية أو عطية يعد ذلك العمل أو الامتناع أو الإخلال.. يقصد المكافأة على ذلك بالسجن وبغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد على خمسمائة جنيه.
وتعاقبه المادة 105 مكرر بنفس القوة إذا قام بعمل من أعمال وظيفته أو امتنع عن عمل من أعمالها أو أخل بواجباتها.. نتيجة لرجاء أو توصية أو وساطة.
أما المادة 106 فتعتبر كل مستخدم طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدا بغير علم مخدومه ورضائه.. مرتشيا وتعاقبه بالسجن مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تقل عن مائتى جنيه ولا تزيد عن خمسمائة جنيه.
وتعتبر المادة 106 مكرر كل موظف طلب لنفسه أو قبل أو أخذ وعدا أو عطية لاستعمال نفوذ حقيقى أو مزعوم للحصول أو لمحاولة الحصول من أية سلطة عامة على أعمال أو أوامر أو أحكام أو قرارات أو نياشين أو التزام أو ترخيص أو إنفاق توريد أو مقاولة أو وظيفة أو خدمة أو أية ميزة من أى نوع فى حكم المرتشى.
وتنص المادة 106 مكرر «أ» أن كل عضو مجلس إدارة إحدى الشركات المساهمة أو إحدى الجمعيات التعاونية أو النقابات المنشأة طبقا للقواعد المقررة قانونا أو المؤسسات أو الجمعيات المعتبرة قانونا أنه نفع عام وكذلك كل مدير أو مستخدم فى إحداها، طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعدًا أو عطية، لأداء عمل أو الامتناع عن عمل من أعمال وظيفته أو يعتقد خطأ أو يزعم أنه من أعمال وظيفته أو للإخلال بواجباتها، يعد مرتشيًا ويعاقب بالسجن مدة لاتزيد على سبع سنين وغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه، ولو كان الجانى يقصد عدم القيام بالعمل.
أما المادة 107 مكرر فتعاقب الراشى والوسيط بالعقوبة المقررة للمرتشى ومع ذلك يعفى الراشى والوسيط من العقوبة إذا أخبرا السلطات بالجريمة.
وتعاقب المادة 109 مكرر من يعرض الرشوة ولا تقبل منه بالسجن وبغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد على ألف جنيه، وذلك إذا كان العرض حاصلا لموظف عام.. أما إذا كان لغير موظف عام فتكون العقوبة بالحبس لمدة لا تزيد على سنتين أو غرامة لا تجاوز مائتى جنيه.. وتعاقب المادة أيضًا من يقبل الوساطة فى رشوة حتى ولو لم يتعد فعله العرض أو القبول.
أم المادة 110 فتحكم بمصادرة ما يدفعه الراشى أو الوسيط على سبيل الرشوة.. وتعتبر المادة 111 فى حكم الموظفين وتطبق عليهم نصوص هذا الفصل، كل المستخدمين فى المصالح التابعة للحكومة أو الموضوعة تحت رقابتها وأعضاء المجالس النيابية أو العامة أو المحلية سواء كانوا وكلاء الديانة والمصفين والحراس القضائيين وكل شخص مكلف بخدمة عامة وأعضاء إدارة ومديرى ومستخدمى المؤسسات والشركات والجمعيات والمنظمات والمنشآت إذا كانت الدولة أو إحدى الهيئات العامة تساهم فى مالها بأى نصيب وبأية صفة كانت.
رجل الشارع
فما رأى رجل الشارع وما رأى المسئولين فى النيابات والمباحث؟
هناك شبه إجماع على ان الرشوة بكافة صورها الصريحة والمقنعة أصبحت متفشية بين موظفى الحكومة والقطاع العام، بل لقد وصل بعض الموظفين إلى اعتبارها حقوقا مشروعة يطالبون بها علنا أحيانًا.
ورجل الشارع ما زال يلتمس العذر لصغار الموظفين الذين يرتشون للوفاء بالحاجات الأساسية وليست الكمالية لأسرهم بعد أن توالت موجات ارتفاع الأسعار فى فترة وجيزة، ولكنه شديد التعجب لموقف الموظفين الموسرين والمغرقين فى الطمع، ويؤكد رجل الشارع انتشار الرشوة فى قول شائع له «إذا أرادت أن تنجز فأبرز الوينجز» والوينجز هذه ماركة سيجارة، والمعنى الذى يقصده أن الرشوة أصبحت الآن مفتاحا لإنجاز الأعمال فى أى مكان حتى لو وصلت ضالتها إلى ما قيمته سيجارة.
وباستطلاع آراء بعض رجال النيابات والمباحث.. أجمعوا على أن معدل جرائم الرشوة فى ازدياد مستمر وخاصة ما خفى منها ويرجعون الأسباب إلى تشجيع الحكومة للقطاع الخاص المصرى والأجنبى على تنفيذ الاستثمارات وازدياد ارتباط مصالح رجال الأعمال مع موظف جهات الحكومة المختلفة.
ومن المعروف أن رجال الأعمال لا يتوانون عن أية رشاوى تؤدى إلى سرعة انتهاء الإجراءات الخاصة بمشروعاتهم وخصوصا مع ما هو معروف من تعقد الإجراءات وتأخرها الطبيعى تارة والمتعمد تارة أخرى.
أين العلاج؟
فى ندوة جمعت الأساتذة مجدى شرف رئيس نيابة الجيزة السابق وأحمد إبراهيم رئيس دائرة قضائية بمحكمة باب الخلق وموفق أو شنيف المحامى.. أجمعت الآراء على ضرورة التصدى للرشوة فى مجال بناء المجتمع على القيم الأخلاقية، كما أن طرق علاج هذه المشكلة أصبحت الآن ضرورة اجتماعية ملحة، وتركزت الحلول فى ضرورة المزيد من التشريعات الرادعة والمزيد من تربية النفوس على العفة والمروءة والأمانة والرضا بالحلال ولو كان قليلًا، ودعوة أصحاب الحقوق إلى أن يأخذوا حقوقهم وينجزوا مصالحهم بالطرق المشروعة غير الملتوية، وألا يفتحوا بابا للرشوة وأن يتصدوا لمن يعرقل أعمالهم ويطالبوا بتطبيق القانون عليهم.
صندوق للموظفين
ولم يبق أمامى الآن إلا أن أقدم اقتراحا يبدو غريبا لأول وهلة، ولكنه فى الحقيقة شبه مطبق فى بعض المصالح، فمثلًا إذا أردت استخراج صحيفة الحالة الجنائية فهناك أمران: إما مستعجل أو عادى.. والمستعجل تدفع عليه رسما مضاعفًا وتتسلمه فى نفس اليوم.. والعادى رسمه أقل وتتسلمه فى موعده، كذلك إذا أردت إرسال خطاب فهناك المستعجل والعادى والمسجل.
من هذا المنطلق يبرز الاقتراح الذى أسوقه وأعرضه الآن: ما رأيك فى إنشاء صندوق للموظفين بكل هيئة يموله علانية أصحاب الأعمال بمبالغ على هيئة مكافآت تشجيعة لإنجاز الأعمال، على أن تجمع حصيلة هذه المبالغ، التى يصدر بها إيصال رسمى، على الموظفين آخر الشهر بمعرفة رئاسة الجهة التى يتبعونها، وبشرط أن ينجز الموظفون هذه الأعمال فى أوقات إضافية غير أوقات العمل الرسمية مقابل إرهاقهم فى العمل.
ما رأيك؟ وفى انتظار الرد
ما رأيك الآن فى الاقتراح.. أليس يجمع بين رأى الدين والقانون ورجل الشارع والموظف، ويحقق فى الوقت نفسه دخلا للموظف الشريف والمرتشى بعيدا عن ميزانية الحكومة، وبعد أن كانت الرشوة مقصورة على موظف أو بعض الموظفين ثم تتعثر الإجراءات عند عرضها على رؤسائهم أو الموظفين الشرفاء مما لا يحقق مصلحة دافع الرشوة نفسه.
والآن أرجو أن ترتشف القهوة قبل أن تبرد.. وفكر معى فى الاقتراح، كوسيلة لبناء مجتمعنا على الحب بعيدًا عن الحقد والأنانية والعودة به إلى أخلاق القرية.. وفى انتظار رأيك؟