يعيد الفيلم الأمريكي "زقاق الكوابيس"، الذي أخرجه واشترك فى كتابته المخرج المكسيكي المعروف جييرمو دي تورو، استلهام رواية بنفس الاسم من تأليف ويليام ليندساي جريشام، كانت قد قدمت سينمائيا فى فيلم سابق أنتج عام 1947، ولكن هذه المرة نراها بصورة أكثر ضخامة، وبتركيز أوضح على الجانب النفسي، وربما أيضا الجانب الديني للقصة الغريبة، وبمحاولة طموحة لاستعادة الفيلم نوار، أو فيلم الغموض والجريمة، وإن كانت الملاحظة الأهم أن الفيلم كان يمكن أن يستغرق وقتا أقل، وكان يمكن تكثيف أحداث الجزء الأول منه، الذي يدور فى سيرك أو كرنفال للعروض الغريبة والعجيبة، مع التسليم بالطبع بأن هذا الجزء يؤسس للجزء الثاني منه، ولكن الإختلاف فى ضرورة التكثيف، بدلا من التفصيل، لدرجة يمكن أن تظن أن الأحداث المحورية ستقع داخل السيرك، وليس بعد خروج بطل الفيلم وحبيبته من المكان.
يمكن أن نتحدث عن مفاتيح لقراءة "زقاق الكوابيس"، الذي رشح لأربع جوائز أوسكار من بينها جائزة أحسن فيلم، وهذه المفاتيح مرتبطة ببناء مركب من الإثارة والتحليل النفسي وعالم الجريمة، فيمكنك أن ترى الحكاية كدراسة فى شخصية مأزومة، لارتكابها جريمة، ويؤرقها الإحساس بالذنب، ولا تستطيع أن تفلت من تأثير علاقته بالأب، فالشاب ستان كارلايل، يتخلص فى بداية الفيلم من جثة، ويحرق منزله، وسنعرف فيما بعد أن علاقته لم تكن جيدة مع والده مدمن الخمر، وسيقرر هو فيما بعد ألا يشرب الخمر، وعندما يعمل فى سيرك الغرائب، سيكون العجوز بيت هو بديل الأب، الذي يعلمه كيفية الاحتيال على الآخرين، وإيهامهم أنه يستطيع قراءة أفكارهم، ولكن ستان يتسبب فى موت بيت أيضا، وستظهر فكرة التحرر من الذنب أيضا فيما بعد عند إزرا، العجوز الثري، الذي يثقله إحساس الذنب تجاه شابة حملت منه وأجهضها، ويحاول ستان أن يخدع إزرا باستعادة روح وجسد هذه الشابة، ويمكننا أن نقرأ مصير ستان، ومصير العجوز إزرا، باعتبارهما تكفيرا عن هذه الذنوب القديمة التي لا تموت.
هذا خط أساسي فى الحكاية، التي تبدأ من السيرك المغلق، وتنتهي ب سيرك الحياة نفسها، بكل تعقيداتها، وبينهما يتعلم ستان خداع الآخرين، وتحبه فتاة السيرك مولي، وتتزوجه، ولكن لقاءهما بالطبيبة النفسية الغامضة ليليت (كيت بلانشيت)، سيغير حياتهما، حيث ستتحالف مع ستان بأن تمده بمعلومات حول مرضاها وماضيهم، فيوهمهم بأنه يعرف أفكارهم، على أن تقوم هي بتحليله نفسيا، فيما تريد أن تدمره انتقاما من موقف سابق، فكأنها شخصيات معقدة تلعب مع بعضها البعض، وتتحايل على بعضها، مثلما تتحايل على الآخرين فى نفس الوقت.
المفتاح الآخر الهام للعبة هو انتصار الأقدار فى النهاية، والعودة من جديد إلى سيرك الغرائب، بعد فشل ستان فى سيرك الحياة، وقد حذر بيت تلميذة ستان من مواجهة القدر، ومن أن يصبح هو نفسه ضحية للعبته، بأن يصدق الوهم الذي صنعه، وقد حاول ستان أن يتذاكى على قدره ومصيره، فعاد من جديد من حيث بدأ، بل لم يعد أمامه سوى أن يقوم بدور المخلوق المتوحش فى السيرك، وهو المخلوق الذي سيتعارك معه ستان فى أول الفيلم، هنا معنى فشل الإنسان فى الهروب من قدره كما فى القصص الديني، أو كما هو الأمر عند البطل التراجيدي فى الدراما الإغريقية، ستان اكتشف أنه لم يكن يدير أي شيء، بينما يظن أنه هو الذي يدير اللعبة كلها، خطأ ستان أنه صدق أن قدرته حقيقية وليست نتيجة الخداع والحيلة، وكان بيت قد حذره حرفيا من ذلك، ولا شك أنه خطأ تراجيدي فادح، دفه ثمنه بشكل مزدوج: بمواجهة قدره، وبالتكفير عن ذنبه القديم.
المفتاح الثالث للقراءة هو لعبة الحقيقة والأكاذيب، فكل ما يحدث باستدعاء الأرواح، وقراءة الأفكار، ليس إلا أكذوبة، وحكاية الرجل الوحش ليست إلا أكذوبة اخترعها كليم (ويليام دافو) المخادع داخل السيرك، هذه الألعاب يمكن أن تنجح داخل السيرك فقط، أما فى سيرك الحياة، فإن الحقيقة سرعان من تعلن عن نفسها، وسرعان ما ينهار الكذب، وستان الذي خدع رجل البوليس داخل السيرك، لن ينجح فى خداع إزرا بتحضير روح وجسد حبيبته الميتة، واللاعب الذكي ستان فى السيرك، ستواجهه لاعبة أكثر ذكاء فى الواقع، فتهزمه، الكذب فى الفيلم لعبة خطرة، يمكن أن تسلي الجمهور فى السيرك، ولكنها لو تحولت إلى جد ستدمر صاحبها، وهنا مرة أخرى معنى ديني وأخلاقي أعتقد أنه موجود فى النص الأصلي للرواية، وخصوصا مع احتفاظ كليم بجنين داخل وعاء زجاجي، أطلق عليه اسم أخنوخ، وهو اسم مستمد من التوراة، لأحد أبناء آدم، وكان رجلا صالحا فى مجتمع شرير، رفعه الله إليه، ستان سيتأمل هذا الجنين أكثر من مرة، وسيراه بعد عودته فى النهاية للسيرك، ولا شك أن هذا الجنين، الذي تتصدر صورته عناوين النهاية، يقدم إحالات إلى فكرة انتقام الله من مرتكب الذنب والشرير، وإلى انتصار الحقيقة والقدر، فى مواجهة ألاعيب ستان وحيله، وكلها أفكار متضمنة فى الحكاية المثيرة والغريبة، وفيها كثير من المغزى الأخلاقي الواضح، رغم بساطة القصة وعاديتها الظاهرة.
ما نراه من جريمة وألعاب وانقلابات فى العلاقات لا يستهدف فقط اللعب، وإنما هناك أشياء أعمق تقال ويريدك الفيلم أن تتأملها، وليس بعيدا أن تكون هناك دلالة رمزية فى تسبب ستان فى موت الأب الأصلي، وفى موت والده البديل، وعقابه بالإرتداد إلى حالة الرجل الوحش، الذي يتفرج عليه البشر العاديون فى السيرك، نجح برادلي كوبر فى أداء شخصية ستان فى كل مراحلها، ونجحت كيت بلانشيت فى أداء دور الطبيبة المغوية ليليت بكل براعة، لديها دوما قدرة على التعبير بوجهها وبعيينها وبلغة جسدها بصورة مدهشة، مع فريق مميز من الممثلين أبرزهم ويليام دافو فى دور كليم، وروني مارو فى دور موني وتوني كوليت فى دور قارثة الأفكار زينة.
جيييرمو دي تورو يثبت هنا أنه يعرف تماما نوعية فيلمه المعقدة، ويترجم ذلك بيناء بصري رمادي ومظلم وكابوسي أحيانا، كما أن إبراز الجانب النفسي كان أيضا مميزا، مع عناصر فنية رفيعة المستوى كالتصوير والديكور والموسيقى، ساهمت فى نقل معنى الغرابة وعدم الإرتياح إلى المتفرج.
لقد اكتشف دي تورو ايضا أن رواية «زقاق الكوابيس» تحتمل ما هو أعمق من الإثارة والجريمة، إنها حكاية عن حيرة الإنسان بين الحقيقة والكذب، وبين القدر والإختيار، وبين الذنب والتكفير، ضاع ستان، ولكن مازالت ليليت، بتركيبتها المعقدة والمضطربة، تمارس عملها فى سيرك الحياة، فكأنها قصة بلا نهاية، وكأن الرجل الوحش يعيش بيننا، مثلما يعيش ايضا فى جدران سيرك الغرائب.