يبدو للمراقب أن الضرر أصاب العالم أجمع بسبب الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، إلا أن دراسة متأنية لأوضاع إسرائيل، سوف توضح أن الدولة التي تستفيد من كل أزمات العالم، هي الأكثر تضرراً من تلك الأزمة المتوقع لها أن تستمر بعض الوقت، فالعديد من البلدان الأوروبية تعيش انعكاسات سلبية مباشرة للأزمة الأوكرانية على أمنها الغذائي واستقرارها السياسي، حيث تبرز ملامح أزمة اقتصادية واجتماعية أوروبية عامة بسبب الغلاء والارتفاع الحاد في أسعار الطاقة ومشتقاتها والمواد والسلع الغذائية الرئيسية، الأمر الذي أدى إلى أن يسود النقاش داخل الأوساط الصحفية والرأي العام الأوروبي حول تداعيات العقوبات المفروضة من جانب الإتحاد الأوروبي على روسيا، وكيف ستؤثر على الإقتصاد الأوروبي الذي يعاني بالأساس من انكماشا مزمناً، بسبب تفشي جائحة فيروس كورونا خلال العامين الماضيين، أما منطقتنا العربية فحدث ولا حرج، فتلك المنطقة ما تكاد تستفيق من أزمة، حتى تلحقها الأخرى فتضرب بعنف إقتصاديا وسياسياً وأمنيا واجتماعياً .
أما إسرائيل، فيبدو موقفها الأكثر صعوبة نتيجة اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية، بسبب الخيارات السياسية الصعبة التي فرضتها عليها هذه الحرب، سواء نجحت المحاولات الدبلوماسية في إنهائها، أو انتهت بتوقف روسيا عند حدود معينه تؤدي إلى تقسيم أوكرانيا إلى دولتين، أو عدة دول بعد فرض استقلال منطقتي لوجانسك و دونيتسك بتشجيع ومباركة روسية قبل بدء الزحف باتجاه أوكرانيا.
وتدرك إسرائيل أن الانحياز إلى أي من الجانبين، الأمريكي أو الروسي في تلك الأزمة سيكلفها الكثير، فإنحياز تل أبيب لموقف الولايات المتحدة لتجنب خسارة أهم حليف استراتيجي لها، يمكن أن يدفع روسيا لأن تواصل تطوير علاقاتها مع إيران اقتصادياً وعسكرياً، ومع تردد الأنباء عن قرب توقيع اتفاق نووي مع إيران، تتصاعد مخاوف إسرائيل، الرافضة للاتفاق القديم أصلاً وأن تترجم موسكو غضبها من الموقف الإسرائيلي المُنحاز لواشنطن في الحرب الأوكرانية إلى مزيد من التعاون بين روسيا وإيران في مجال الطاقة النووية .
كما تخشى تل أبيب من أن يؤثر موقفها المُنحاز لواشنطن في الحرب الأوكرانية على التفاهمات، التي كانت قد توصلت إليها مع موسكو، والتي منحت إسرائيل العمل بحرية ضد الوجود الإيراني في سوريا، خاصة وأن روسيا كانت قد هددت إسرائيل بهذه الورقة، عندما أعلنت في 24 يناير الماضي عن بدء تسيير دوريات مشتركة جوية مع سلاح الجو السوري، بالقرب من هضبة الجولان السورية التي ضمتها إسرائيل إليها، مؤكدة أن هذه الدوريات ستتحول إلى نشاط دائم مستقبلاً، الأمر الذي يعني أن الحرية التي يتمتع بها سلاح الجو الإسرائيلي في مهاجمة أهداف لإيران ولحزب الله اللبناني في سوريا، والتي مكّنت إسرائيل من شن عشرات الهجمات من هذا النوع في العام الماضي، دون أن تعترضها الدفاعات الروسية في سوريا، هذه الحرية يمكن أن تنتهي إذا واصلت تل أبيب إدانتها للتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كما أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لابيد، في 24 فبراير الماضي .
أما الخيار الإسرائيلي بالانحياز لروسيا خوفاً من التداعيات السابقة، فإنه يمكن أن يعرضها لخسارة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الكبار مثل ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، وسبق أن تأزمت العلاقات بين الولايات المتحدة و إسرائيل في أعقاب امتناع تل ابيب عن التصويت لصالح قرار تبنته واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون عام 2014، واستهدف إدانة روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم، ولن تتسامح أمريكا مطلقاً مع أي موقف إسرائيلي غير مؤيد لها صراحة في الأزمة الأوكرانية - الروسية .
وتشير تقارير صحفية إلى أن عدداً من رجال الأعمال الروس، قرروا نقل أموالهم إلى إسرائيل لتفادي العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي عليهم، وهو ما قد يؤدي إلى توتر شديد في العلاقات الإسرائيلية - الأمريكية، وفي حال رفض إسرائيل انتقال تلك الأموال اليها، أو عرقلة تمدد رأس المال الروسي داخل مصارفها ومشروعاتها، فإنها بذلك تكون قد خسرت الكثير، وأضاعت فرصة كبيرة لإنعاش اقتصادها .
ومن هذا المنطلق فإن إسرائيل الآن تقف حائرة، وفي موقف لا تحسد عليه، فهي تحتاج إلى تقدير جيد للموقف، تستطيع من خلاله الإفلات من بين مطرقة دعم أمريكا وسندان إدانة روسيا، والوقوف بوجه ما يراه رجلها القوي بوتين حقا مشروعاً لحماية أمن بلاده القومي، من خلال منع حلف الناتو من الإمساك بموطئ قدم في خاصرته الرخوة "أوكرانيا "، فالعلاقات الإسرائيلية - الأمريكية قضية إستراتيجية عظمى بالنسبة لتل أبيب، على اعتبار أن واشنطن هي الضامن الأهم لأمن إسرائيل وتفوقها العسكري في الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى، تشكل موسكو تهديداً خطيراً للمصالح الأمنية الإسرائيلية في ملفين رئيسيين، هما كبح الطموحات النووية الإيرانية، والتفاهمات التي توصلت إليها إسرائيل مع روسيا بعد تدخل الأخيرة في الصراع السوري، وقيامها بإنشاء قاعدة عسكرية لها هناك " قاعدة حميميم".
وعلى الرغم من أن الكثير من المؤشرات ترجح فرضية عدم التصعيد من جانب روسيا، خوفاً من الانزلاق إلى حرب شاملة مع "الناتو"، إلا أن الرغبة الروسية في تأمين الوصول إلى شواطئ بحر قزوين، ومنع تمدد الناتو بضم أوكرانيا، مع ضمان وجود نظام حاكم لأوكرانيا موالي لموسكو، سوف يسهم في استمرار التوتر الشديد بين موسكو وواشنطن وحلفائها لفترة طويلة، خاصة مع تشديد العقوبات الغربية على روسيا، وفي هذه الحالة فإن تل أبيب ستكون مجبرة على الالتزام بهذه العقوبات، ومن ثم الصدام مع روسيا في الملفين السوري والإيراني .