نجوم رمضان الغائبون.. أسامة أنور عكاشة

نجوم رمضان الغائبون.. أسامة أنور عكاشةمحمود عبد الشكور

الرأى5-4-2022 | 14:08

أتذكر فى رمضان أحد نجومه، ونجوم كل المواسم، أسامة أنور عكاشة، أستاذ الدراما التلفزيونية، عاشق المحروسة والمصراوية، صاحب الرأى والرؤية قبل الحرفة، والذي رحل عن عالمنا فى يوم 28 مايو من العام 2010، ولكن ما زالت أعماله من أهم ما قدم فى عالم الدراما التليفزيونية رغم أنه لم يعد يكتب، ولم يعد ينافس بعمل جديد ، فإذا تصادف أن شاهدنا عملا فيه شخصية درامية لا تنسى، أو قضية خطيرة طرحت بذكاء وبراعة، أو حكاية تشهد على زمنها، لقلنا أنها تحاول أن تذكرنا بدراما أسامة أنور عكاشة.

تابعت أعماله من السبعينيات فى مرحلة الصبا. فى السبعينيات، لا أنسى سباعيتين قديمتين من إبداعه : الأولى بعنوان " رجال فى الغروب" من بطولة عماد حمدى وليلى حمادة، وقد حققت اهتماما لافتا، والثانية أثارت ضجة هائلة وعنوانها " الحصار" من بطولة صلاح قابيل (ربما كان ذلك عام 76 مثلا) قدم بعدهما مسلسلا لم ينجح وهوجم بشدة اسمه "ريش على مافيش" من بطولة يحيى الفخرانى ،وكان الهجوم قاسيا، ولكن ظل للمسلسل أهميته باعتباره أول بطولة ليحيي الفخراني، كما أن موضوعه هام ولافت، إذ إنه كان يسخر من أدعياء الموهبة وكدابي الزفة، وإن كانت معالجته الكوميدية ليست موفقة.

عاد عكاشة بعد ذلك بأولى تحفه الكبرى : مسلسل "المشربية" للمخرج فخر الدين صلاح، رفيق مشوار عكاشة الذي أقنعه بأن يكتب الدراما التليفزيونية، وقد أعلن هذا المسلسل عن مولد كاتب درامى من الطبقة الأولى الممتازة، وتوالت بعد ذلك أعماله الشهيرة على سبيل المثال وليس الحصر: "على أبواب المدينة"، "الشهد والدموع"، "ليالى الحلمية" ، "أرابيسك"، و"قال البحر"، "عصفور النار"، "الحب وأشياء أخرى" ، "أبو العلا البشرى"، "الراية البيضا"، "زيزينيا"، "ضمير أبلة حكمت"، "أميرة فى عابدين "، المصراوية".. و.. و.. وأعماله السينمائية القليلة مثل "كتيبة الإعدام" و"دماء على الأسفلت" و"تحت الصفر"..

أتذكر أننى التقيت أسامة لأول مرة فى مكتب الأديب العظيم نجيب محفوظ فى الأهرام، كان نجيب يحبه ويقدره، وكان أسامة يحب أعمال نجيب، وقد أعد عكاشة عن قصة محفوظية مسلسلا بعنوان "الرجل الذى فقد ذاكرته مرتين"، وكانت من مشروعات أسامة أن يقدم معالجة تليفزيونية مبتكرة لرواية نجيب محفوظ الشهيرة "بداية ونهاية"، لو تحقق هذا المشروع لشاهدنا بالتأكيد عملا مختلفا، وقد وصف محفوظ إنجاز أسامة الدرامي بأنه مؤسس "الأدب التليفزيوني"، بمعنى أنه جعل من المسلسل التليفزيوني ما يعادل قيمة الأدب، وقد سعد أسامة كثيرا بهذا الوصف، واعتبره تعويضا له عن جهده الأدبي، فالمعروف أنه كتب القصة والرواية، وصدرت له بعض الأعمال المنشورة.

مشروع أسامة أنور عكاشة الدرامي، يعيد اكتشاف وقراءة الواقع بصورة واقعية انتقادية، وبلمسة إنسانية عذبة، مع انحياز أخلاقي صريح للقيم المفقودة، ورفض لما فعلته المادة فى البشر، فطن أسامة أنور عكاشة مثلا إلى رواية "دون كيخوتة"، فاستلهم الشخصية المثالية التى تحلم بعالم أفضل فى "رحلة السيد أبو العلا البشري"، ، ووضعها فى قلب الواقع المصرى، الذى يجيد أسامة رصد تحولاته بصورة لا تبارى، وانتهز الفرصة لتشريح مأساة الطبقة الوسطى، التى تحلم بالثراء فى ظل الانفتاح، وفى عصر الهبش والفهلوة، وفى مقابل ذلك تتخلى عن مبادئها وأخلاقها غير المناسبة للعصر، المسلسل يعرّى هذه المحاولات المستمرة من خلال أبو العلا ورحلته لإصلاح العائلة التى أحبها.

ولكن عكاشة المدهش يطور الفكرة، ويأخذها إلى آفاق أخرى، أبو العلا يبدو فعلا وكأنه يحارب طواحين الهواء، وكأنه غريب عن زمنه وعصره مثل دون كيشوت، ولكن المشكلة لم تكن فى فروسيته، ولا فى أنه تعثر وضحكوا عليه، المشكلة فى أن مقاومة هذا الخطأ الجماعى، يتطلب أكثر من فارس، وليس أبو العلا وحده. الخطأ وجد عصابات وشبكات تدافع عنه وتبرره، ولذلك لن يهزمه أبو العلا وحده، لابد أن يصنع الفرسان والحالمون عصابتهم، لابد أن يدركوا الطريقة التى تغير بها الواقع لكى يقاوموا الخطأ، ولابد أن يتضامنوا معا، هذا هو درس الرحلة، وهذا هو درس أستاذ التاريخ (صبرى عبد المنعم فى دور قصير جدا ولكنه من أهم أدوار المسلسل) الذى كان يظهر للبشرى ساخرا منه، لا يمكن لفارس واحد أن يغير، من حقه بل من واجبه أن يعترض على الخطأ، وأن يبذل ما يستطيع للتغيير، ولكن النتيجة مرتبطة بتضامن الآخرين معه، وهذا المعنى نفسه ستجده مجسدا فى نهاية " الراية البيضا" عندما يقف أعداء القبح معا أمام البلدوزر. مشروع أسامة يدور تقريبا حول هذه الفكرة : اختبار القيم الحقيقى فى الواقع وليس فى الخيال، كل فرد مسئول ، ولكن التغيير لن يتم إلا بوعى جماعى، و أسامة أنور عكاشة هو نفسه أبو العلا البشرى الذى يبحث فى كل عمل درامى عن سبب الخلل الذى أصاب القيم فى الواقع، لا يكتفى بالبحث والوصف، ولكنه يبحث عن وسائل التغيير.

نفتقد فنك ووعيك وفهمك لشعبك أيها الكاتب المتفرد فى عالمه، نفتقد بصمتك الخاصة، و رؤيتك للمستقبل على ضوء الماضى، نفتقد مجتمعنا فى معظم المسلسلات، وفي دراما حالية تبدو بعض أعمالها كما لو كانت مترجمة عن أعمال أجنبية، مع أن حياتنا مليئة بالأفكار وبالموضوعات المدهشة، ولكن أحدا لا يريد أن يتعب نفسه، مثلما كان يفعل أسامة وجيله.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2