ويسألونك عن الروح «2»

الرأى11-4-2022 | 09:05

مهما اجتهد العلم، فإنه دون أن يصل إلى إجابة شافية فى أمر الروح، وقد ظلت مسألة الروح من أصعب مسائل العلم والفلسفة ومذاهب التفكير فى جميع العصور، ومن معجزات القرآن أنه وضعها هذا الموضع الصحيح، فهى معضلة أعجزت العلماء والفلاسفة فى التعرف على كنهها، فلا علن بأمر الروح إلا بوحى من الله عز وجل، وهذا هو فصل الخطاب فى مسألة الروح.

وقوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) « الإسراء 85»، ليس جوابًا ببيان ما سألوا عنه، ولكنه صرف عن استعلامه، وإعلام لهم بأن هذا العلم الذى لم يؤتوه، فهذه الروح التى يحيا بها الإنسان قد استأثر الله فى علمه بكنهها وحقيقتها، لم يخبر بذلك أحدًا من خلقه ولم يعط علمه العباد، وهى التى نفخها فى آدم وفى بنيه من بعده وهى من خلق الله سر أودعه فى المخلوقات.

ولم يتوقف علماء المسلمين عن الكتابة والدراسة عن هذا الموضوع على مر العصور.

وقد اختلف العلماء فى الروح والنفس، فهل هما شىء واحد.. أو هما شيئان متغايران؟

إن كلمتى الروح و النفس وردتا فى آيات كثيرة فى القرآن الكريم وكثر ورود كلمة النفس مفردة ومجموعة قرابة الثلاثمائة مرة أو تزيد.

فريق من العلماء قال: إنهما يطلقان على شىء واحد، وقد صح إطلاق كل منهما على الأخرى، ومن هذا ما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبى هريرة: إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه، والله تعالى يحب لقاءه، وإن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا.

فهذا الحديث يؤيد إطلاق الروح على النفس.. و النفس على الروح، وقال الفريق الآخر إنهما شيئان، ف الروح ما به الحياة، و النفس هذا الجسد مع الروح، فللنفس يدان وعينان ورجلان ورأس يديرهما وهى تفرح وتتألم وتحزن، أما الروح فجسم نورانى علوى حى يسرى فى الجسد المحسوس بإذن الله وأمره سريان الماء فى الورد لا يقبل التحلل ولا التبدل ولا التمزق ولا التفرق، يعطى للجسم المحسوس الحياة وتوابعها، ويترقى الإنسان باعتباره نفسًا بالنواميس التى سنها الله وأمر بها، فهو حيث يولد يكون كباقى جنسه الحيوانى لا يعرف إلا الأكل والشرب، ثم تظهر له باقى الصفات النفسية من الشهوة والغضب والحسد والحلم والشجاعة، فإذا غلبت عليه إنابته إلى الله وإخلاصه فى العبادة تغلبت روحه على نفسه فأحب الله وامتثل أوامره وابتعد عما نهى عنه، وإذا تغلبت نفسه على روحه كانت شقوته.

وقد أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن النفس على ثلاث حالات النفس الأمارة بالسوء: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) « يوسف 53».

و النفس اللوامة: (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)«القيامة 2».

و النفس المطمئنة:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِى عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي) «الفجر».

والمراد أن هذه صفات وأحوال لنفس واحدة، فإذا غلب على النفس هواها بفعلها للذنوب والمعاصى فهى النفس الأمارة بالسوء، و النفس التى تذنب وتتوب هى النفس اللوامة، التى تلوم صاحبها على الذنوب، ولأنها تتلوَّم، أى تتردد بين فعل الخير والشر، و النفس المطمئنة هى التى تحب الخير وتبغض الشر، وقد صار ذلك لها خلقًا وعادة، فهى نفس واحدة لها عدة صفات.

ف النفس هى المكلفة دائمًا والمخاطبة فى القرآن، و النفس هى الذات وهى الأساس فى الإنسان وما الجسد إلا ثوبًا للنفس ترتديه كى يكون الوسيط فيما بينها وبين العالم المادى، وذلك من خلال الحواس. قال تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) «غافر 17».

ورغم وجود علاقة وارتباط بين الروح والنفس، إلا أن الروح شىء و النفس شىء آخر.

ف النفس تموت بقوله عز وجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) «آل عمران 185»، أما الروح فلا تموت لأننا ندرك كنيتها، وبالتالى فإنها تصعد إلى بارئها، أى إن الروح فى عالم مجهول بالنسبة لنا.

وفى الأحاديث النبوية أخبر النبى صلى الله عليه وسلم، أن ملك الموت يقبض الروح، وأن الملائكة تضع تلك الروح فى كفن من الجنة أو النار بحسب فلاحها أو فسادها، وأنه يُذهب بها فى رحلة علوية سماوية، حيث تُفتح لها أبواب السماء إن كانت صالحة وتغلق دونها إن كانت طالحة.

وتموت النفس مرتين، مرة حين النوم، فإذا نام الإنسان قبض الله نفسه ولم يقبض روحه، فالنائم يتنفس وقلبه ينبض.

ف النفس يتوفاها الله أثناء النوم أى يأخذها.. ثم يعيدها حين الاستيقاظ، وتتم تلك العملية بسرعة فائقة، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز، وتموت النفس فى المرة الثانية حين تفارق الروح الجسد: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) «الزمر 42»، والمراد (حين موتها) أى حين تفارق الروح الجسد.

ويقول المولى عز وجل على لسان سيدنا عيسى عليه السلام: (تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) «المائدة 116».

فلم يقل الله (روحى) بدلا من (نفسى) للدلالة على أن الروح غير النفس، حيث إن النفس هى مدار التكليف والأعمال والأقوال، ويقول المولى عز وجل: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) «الحجر 92».

ولم يقل (من نفسى) للدلالة على أن الروح غير النفس.

ويقول رب العالمين: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) «فاطر 32»، ولم يقل (لروحه) للدلالة أيضًا على أن النفس غير الروح.

وإذا استعرضنا الآيات التى لها علاقة بالقتل نجد أنها مرتبطة بالنفس، ولم يذكر أى آية لها علاقة بالروح، فيقول المولى عز وجل: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ) «الأنعام 151».

وهناك خمسة عشر موضعًا فى القرآن يربط القتل بالنفس، ولا تُذكر الروح فى هذا المجال، حيث إن الروح لا تُعرف حقيقتها، ولا كنهها فلا يقع عليها القتل وهذا يؤكد أن الروح غير النفس.

ولكل من الروح و النفس موقعًا وبينهما تداخل، فالإنسان عبارة عن جسد مؤلف من خلايا مادية، لكن وجود الروح بين هذه الخلايا يجعلها حية تعيش وتتحرك وتنمو وتتكاثر، و النفس هى التى توجه هذا الجسد بما يحمله من روح.

ومثال ذلك لتوضيح العلاقة بين النفس والروح، فالسيارة قبل تشغيلها تمثل الجسد، وحين تشغيلها يكون المحرك بمثابة الروح، وبعد استعمال المقود فإن السائق إما يقودها إلى بر الأمان أو يهوى بها فى واد سحيق، فقيادة السيارة تمثل النفس.

إن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد المدلول تارة، ويختلف تارة، ف النفس تطلق على الروح، ولكن غالبًا ما تسمى نفسًا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح هى الأغلب عليها.

والخلاصة أن لفظ الروح و النفس من الألفاظ التى تؤدى أكثر من معنى يحددها السياق، وهما فى الواقع متغايرتان فى الدلالة، وإن حلت إحداهما محل الأخرى فى كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ولكن على سبيل المجاز لا الحقيقة.

إن الروح جوهر شريف من أمر الله، وتُنسب إلى الله عز وجل، أما النفس فى ذات الإنسان وهى التى تُكلف وتُعذب وتُنعم.

وفى الختام نوضح أن الروح و النفس معناهما مختلف، ف النفس هى المكلفة لقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) «الشمس».

أما الروح فهى الموجودة فى النفس فتسبب الحياة، وهى سر علمه عند الله، ينفخ بها فى عباده ليوهبهم الحياة.

أضف تعليق

المنتدى الحضري العالمي شهادة دولية للدولة المصرية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين

الاكثر قراءة

تسوق مع جوميا
إعلان آراك 2