ويسألونك عن الروح «3-3»

الرأى17-4-2022 | 17:43

مع أن الروح أقرب الأشياء إلينا، إلا أننا بعيدون جدًا عن معرفتها وتشخيصها، فهي من أعجب ظواهر عالم الوجود وأكثرها غموضًا.

وإذا كانت مساعي العلماء والفلاسفة من أجل معرفة الروح كشفت الحجاب عن بعض الأسرار، لكن جوهر الأسرار الخافية عن الروح لم تنكشف حتى الآن لطالما كان الموت وما يحدث للإنسان بعد وفاته لغزًا محيرًا لعقول البشر، لتظل الروح تمثل تحديًا لقوانين العلم وتُذكر الإنسان دائمًا بعجزه عن إدراك أسرارها، ورغم تقدم العلم ومع حرص بعض العلماء على البحث فى أمر الروح، فلم يعرفوا شيئًا عن حقيقتها.

فيجب عدم إخضاع الظواهر الروحية إلى التحليل العلمي، لأن الروح غير خاضعة لقوانين العلم، ولا يمكن إدراكها وفهمها إلا عن طريق الإيمان.


لنعود لما بدأنا به.. الآية الكريمة: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً» الإسراء 85.


وقد جاء العلم الحديث ليؤكد بعض القضايا التي ذُكرت فى القرآن عن الروح، ومنها أننا لا نرى الأرواح ولا نسمع صوتها لا لأنها غير موجودة ولكن لقصور فى العين والأذن البشرية عن إدراكها، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحيقيقة فيذكر أن هناك أشياء كثيرة حولنا لا نراها، فيقول تعالى: «فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ، وَمَا لا تُبْصِرُونَ» الحاقة 38.

ومن الإعجاز القرآني أن الله تعالى يقسم قسمًا بكمية الأشياء التي لا نبصرها بأعيننا، حيث قدر العلم الحديث أن نسبة ما تبصره العين البشرية إلى ما لا تبصره هو 1 : 10 ملايين، وهي نسبة هائلة لم يكن أحد يتصورها وقت نزول القرآن، وهذا هو مغزى القسم العظيم، فالله تعالى خلق العين والأذن البشرية لا ترى ولا تسمع الأرواح.. حتى لا يصاب الإنسان بالهلع والخوف من سماعها وهذا رحمة من الله بالبشر الأحياء.. فطالما كانت الصلة المادية بين الإنسان والأرواح منقطعة ولا يمكن لمسها أو التحدث معها فى الظروف العادية، والقرآن يؤكد هذه الحقيقة حتى مع الأنبياء، فقد فزع سيدنا إبراهيم حين زارته الملائكة.. فمد إليهم يده بالطعام ولكنه لم يجد لهم جسدا يمكن أن يلمسه ففزع.

قال تعالى: «فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» هود 70.
وتفسير ذلك أن الملائكة كالأرواح ليس لها جسد يمكن لمسه باليد.


والروح لها أكثر من اتصال بالبدن، فهناك اتصال الروح ببدن الجنين فى بطن أمه، واتصال بالبدن بعد ولادته فى الحياة وهو مستيقظ، واتصال بالبدن وهو نائم، واتصال بالبدن وهو فى القبر، واتصال بالبدن فى الدار الآخرة وهو الاتصال الأخير الذي لا فراق بعده، وبالروح يحيا الإنسان، وإذا فارقته مفارقة تامة يكون ميتًا.

ولحظة خروج الروح من بني آدم من أشد اللحظات التي يمر بها الإنسان، وتسمى بسكرات الموت، ولقد قال تعالى فى كتابه الكريم: «وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» ق 19.

وفى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات).

وتحمل سكرة الموت كثيرا من الآلام تلف الإنسان من كل جانب، فمن جهة يشعر بالضعف وقلة الحيلة وعدم القدرة على الحركة بسبب الألم الشديد، وصعوبة فى نطق الكلمات، وأقسى المراحل هي كشف الغطاء عن بصره كما قال الله تعالى: «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» ق 22.

فيرى الإنسان حوله ملائكة الرحمة وملائكة العذاب وهو ينظر هل سيكون من أهل الرحمة فتقبضه ملائكة الرحمة، أم أنه سيكون والعياذ بالله من أهل النار فتقبضه ملائكة العذاب بكل قسوة.. ومن علامات خروج الروح شخوص البصر وارتخاء الأعضاء بشكل عام، وارتخاء عضلات الفك الأسفل بشكل خاص ويميل الجسد إلى البرودة، وتلتف الساق الأيمن على الساق الأيسر أو العكس.

وعند نزع الروح، فأول ما تُنزع من القدم، وتبدأ بالانسحاب حتى تبلغ التراقي أو الحلقوم، يقول تعالى: «فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ» الواقعة 83-85، لتخرج الروح أخيرًا من أسر الجسد وتنطلق فى رحلة عالم البرزخ.
وقد يكون الاحتضار يسيرًا فى لحظة أو يكون عسيرًا فى أيام، ولتسهيل سكرات الموت، ذهب الفقهاء إلى استحباب قراءة سورة يس عند المحتضر، استدلالا بما رواه أحمد وأبو داود من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا يس على موتاكم).


وقد اختلفت الآراء حول موت الروح.. رأى يقول: تموت، لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ» الرحمن 26.
والرأى الآخر يقول: لا تموت الأرواح، فإنها خُلقت للبقاء وإنما تموت الأبدان.

وتدل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يُدخلها الله فى أجسادها مرة أخرى، والرأي الأصوب يقول: موت الأنفس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منه، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهى ذائقة الموت، وإن أريد أنها تفنى وتعدم كلية، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هى باقية فى نعيم أو فى عذاب.. وقد قال تعالى عن أهل الجنة: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى» الدخان 56.

وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد، فالأرواح مخلوقة بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولكن موتها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تُعاد الأرواح إلى الأبدان، فالأرواح باقية لا تفنى، فيُنعَّم المحسن ويُعذَّب المسيء.


وفى ختام رحلتنا مع الروح التي هي من أعظم مخلوقات الله عز وجل، فقد نسبها لذاته العلية لقوله تعالى: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» الحجر 29.

وقد ظلت عقول بني آدم قاصرة عن فهم حقيقة الروح، وكيفية اتصالها بالبدن وكيفية انتزاعها منه، وفى مصيرها بعد ذلك الانتزاع، لنتأكد يقينًا بأن الروح من أمر الله، وهو مما استأثر بعلمه، وقوله تعالى: «قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» ليس جوابا ببيان ما سألوا عنه، ولكنه صرف عن استعلامه وإعلام لهم بأن هذا من العلم الذى لم يؤتوه، وأيضًا تشريف للروح بأن الله اختص الروح بالعلم الكامل، فلا يمكن لأي كائن من كان أن يعلم عن الروح إلا ما أخبر الله تعالى.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2