حديث الجنود عن جبهة القتال له مذاق خاص ومشاعر متأججة، ما بين الإحساس بنشوة النصر الذي حققه الجيش المصري على العدو المحتل في حرب أكتوبر 1973، وبين القلق والتوتر اللذين انتاب الجميع من هول المعركة – وأي معركة – فالحروب ليست نزهة، وبين المفاجأة التي انتابتهم بقرار العبور الذي طال اشتياقهم له للثأر واسترداد أرض سيناء الحبيبة..
صالون مجلة أكتوبر و بوابة دار المعارف الإخبارية، استضاف بمناسبة ذكرى نصر العاشر من رمضان، وتحرير سيناء اثنين من أبناء " أكتوبر ودار المعارف"، اللذين تشرفا بالمشاركة في تحقيق نصر أكتوبر المجيد، ليرويا ذكرياتهما عن معركة الكرامة وينقلا للأجيال الحالية من أبناء المجلة وقرائها، تلك المشاعر المتباينة لجنديين خدما في جيش النصر، هما عثمان فرج، أحد أبطال الحرب الكيماوية، ومحمد عبد المقصود، أحد أبطال الدفاع الجوي، في حرب أكتوبر.
يبدأ، عثمان فرج، مدير عام مؤسسة دار المعارف الأسبق، وأحد أبطال الحرب الكيماوية حديثه، قائلًا: التحقت بالخدمة العسكرية جنديا فى أكتوبر 1967 فى أول دفعة بعد نكسة يونيو مباشرة، ومنذ اليوم الأول لنا فى الجيش كانوا يؤهلوننا أن نكون "جامدين وعودنا يبقى صلب"، فقد كانت خطة إعادة تنظيم القوات المسلحة تجري على قدم وساق.
ويضيف: لن يتخيل شباب اليوم حجم المعاناة التي كنا نعيشها كجنود فى ذلك الوقت، وضغط الناس فى الشارع.
لحظات الرعب
ويستكمل: فى سلاح الحرب الكيماوية كانت التدريبات على أعلى درجات التدريب لمواجهة أى عملية تخطط لها إسرائيل خاصة أن العدو كانت لديه العديد من أسلحة الحرب الكيماوية المحرمة دوليا، مثل غاز الأعصاب، والتي كان يخطط لاستخدامها ضد الجيش المصري لضمان عدم نجاحه فى تحرير أرضه.
هذا بالطبع بخلاف الطبيعة الجبلية الوعرة التي كنا نتواجد بها، وسط الحيوانات المفترسة، فالعقارب تعيش بيننا وتتحرك ليل ونهار، حتى إنني تعرضت للدغات العقارب أكثر من 4 أو 5 مرات وحصلت على المصل مرتين قبل أن اكتسب مناعة من لدغاتها، وهناك أيضا أفعى الطريشة التي كانت تطلق مع السم مادة كاوية تشبه "مياه النار"، لو نجوت من سمها ستصاب بحروق شديدة وأخطرها لو أصابت وجههك فقد تحرق عينيك وتصيبك بالعمى.
ويستكمل: ظللنا 6 سنوات لا نتلقى من قادتنا سوى أوامر "ضبط النفس"، رغم الاستفزازات التي كان يقوم بها الجنود الإسرائيليون المحتلون لأرضنا على الجانب الآخر من القناة، وكنا فى شوق للانتقام وتحقيق النصر واسترداد الأرض المحتلة، وكنا نمني أنفسنا بتحقيق هذا الحلم عاما بعد عام، خاصة مع التدريبات التي تلقيناها وإحساسنا بأن الجيش المصري قد عاد مرة أخرى قوة لا يستهان بها.
لكننا فوجئنا فى منتصف عام 1973 بصدور قرار تسريحنا "خروجنا من الخدمة"، وهو القرار الذي احترنا فى فهم مشاعرنا خلاله، هل نفرح لأننا سنعود للحياة المدنية أم نحزن لأننا أنهينا تجنيدنا دون الثأر للوطن؟.
وأضاف عثمان: فى نهاية سبتمبر 1973 تم إبلاغنا بالذهاب لمعسكراتنا مرة أخرى للتدريب ضمن مشروع حرب، وبالفعل ذهبنا ونحن نتوقع العودة لمنازلنا مرة أخرى، ولم نتوقع أن الحرب ستكون بعد أيام قليلة من تسريحنا وأن ما حدث هو جزء من خطة الخداع الاستراتيجي.
وبصوت باكٍ متهدج، وبحماسة لم تمحها أو تخفف آثارها السنوات، يستكمل عثمان فرج حديث الذكريات قائلًا: لكن توقعاتنا لم تكن فى محلها، وفى الوقت المحدد مسبقا، وفقا للخطة، تحركنا نحو جبهة القتال، دون أن ندري بأنها لحظة الحسم التي طالما انتظرناها بشوق، وأننا شاركنا فى خطة الخداع، وفى صباح يوم 6 أكتوبر طلب منا كأحد الكتائب فى الخطوط الأمامية أن يقوم البعض بأعمال الترفيه وكانت المنطقة فى الخلف خالية تمام إلا أننا فوجئنا بظهور قوات مصرية لا حصر لها تصل لجبة القتال فى وقت واحد تقريبا، وقبل أن نستوعب ما يحدث كانت لحظة النصر التي انتظرناها.
الطائرات الحربية المصرية تشن الهجوم الأول، والمدفعية والدفاع الجوي يحميانها، وصوت الجنود قبل الضباط يرج سيناء بهتافات "الله أكبر" والتي مسحت من قلوبنا أي شك تجاه النصر، وزلزلت كيان العدو وأخبرته أن المارد المصري قد انطلق.
ويلتقط طرف الخيط، ليسرد ذكرياته عن أعوام الحسم والنصر، محمد عبد المقصود، أحد أبناء مؤسسة دار المعارف، وأحد أبطال الدفاع الجوي فى حرب 73، فيقول: التحقت بالخدمة العسكرية فى منتصف عام 1972، وتلقيت تدريبات قوية ومكثفة من اليوم الأول لي بالجيش، حتى وصلنا لمرحلة التدريب على أهداف هيكلية تشبه طائرات ومعدات العدو وكان يتم تقييم تعاملنا مع تلك الأهداف لاختصار زمن التعامل معها لأقل مدة ممكنة، خاصة الطائرات التي تنطلق على ارتفاعات قليلة والمعدات التي تساعدها وكذلك تدربنا على مانع مائي يشبه قناة السويس، وكيفية العبور فى قوارب مطاطية وكل منا يحمل معداته وأسلحته التي سيستخدمها.
وظللنا فى تلك التدريبات المكثفة، ننتقل من مكان تدريب لآخر، ونشهد مشروعات حرب، حتى 5 أكتوبر 1973، لتأتينا التعليمات بالتحرك تجاه الجبهة دون إخبارنا بالطبع أن الحرب ستندلع بعد ساعات، وبالفعل توجهنا إلى المكان المحدد لنا.
وفى يوم 6 أكتوبر، كنا نجهز لطهي طعام الإفطار، وفجأة سمعنا الساعة 2 ظهرًا ما يشبه الانفجار، تلاه صوت رج المكان "الله أكبر"، لنعلم أن قرار العبور والثأر قد صدر.
وشاهدنا فى سماء سيناء أروع مشهد تمنيناه، وكنا نحلم به، وهو عبور نسور قواتنا الجوية للقناة لتصيب أهدافها المحددة سلفًا، ثم تعود مرة أخرى، لقواعدها.
وبعد ذلك صدرت لنا التعليمات بالتحرك والعبور لنشارك فى تغطية الدفاع الجوى للجبهة، وأثبت الجيش المصري بضباطه وجنوده أنه قوة لا يستهان بها.
فمثلًا كان هناك جنود مصريون يحملون على أكتافهم صواريخ مضادة للطائرات ليصطادوا بها الطائرات التي تحلق على ارتفاعات منخفضة هربا من الردار وينوي طياروها شن هجمات علينا، كما كان هناك جنود آخرون يحملون أسلحة آر بي جيه، مضادة للدبابات والمدرعات يصطادون بها معدات العدو ويكبدوه خسائر فادحة.
موقف لا ينسى
ويروي محمد عبد المقصود، مشهدا لم ينسه رغم كل تلك السنوات، حدث يوم 23 أكتوبر، حينما سقطت طائرة إسرائيلية فذهبوا إليها لأسر قائدها كما تعودوا منذ اندلاع الحرب، ولكنهم فوجئوا بأنه قد تحول لجثة متفحمة، بعد اشتعال طائرته، ولم يتمكن من القفز من الطائرة بالبارشوت كما يحدث فى مثل هذه الظروف، والسبب أنه كان مقيدًا بسلاسل حديدية فى مقعد القيادة حتى لا يفر هاربا من المعركة، وهو ما يكشف حجم الرعب الذي كان الجيش الإسرائيلي يعيشه بسبب قواتنا المسلحة وما كبدناه له من خسائر.