ربما لا يشكل فوز الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، فى الانتخابات الرئاسية التى جرت الأسبوع الماضى أمرًا مفاجئًا، إذ كان فوزه على منافسته مارين لوبان متوقعًا بدرجة كبيرة، ومع ذلك، أثارت التفاصيل الدقيقة لنتائج الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية القلق داخل فرنسا وخارجها، حيث نالت لوبان أعلى نسبة تصويت يحققها اليمين المتطرف فى تاريخ فرنسا، بحصولها على 42% من أصوات الفرنسيين فى الجولة الثانية لانتخابات 2022، مقابل 34% فى الجولة الثانية فى الانتخابات الرئاسية الماضية، التى خاضتها أمام ماكرون أيضاً، عام 2017، بزيادة حوالى 8% من الأصوات.
فى هذا السياق، ذكرت صحيفة «لوموند» الفرنسية، أن جان مارى لوبان، والد مارين، سبق أن نال 17.79% أمام الرئيس اليمينى الراحل جاك شيراك فى انتخابات 2002، وآنذاك تساءل الفرنسيون: ماذا أصاب المجتمع الفرنسى ليمنح اليمين المتطرف كل هذه الأصوات؟.
الصحيفة الفرنسية اعتبرت أن هذا الانتصار يعد فشلًا لماكرون، مذكرة بقوله عشية فوزه فى عام 2017، بأنه يريد التأكد من أن الفرنسيين لم يعد لديهم أى سبب للتصويت لمصلحة المتطرفين.
ولم يكن صعود اليمين المتطرف بهذا المستوى هو الأمر الوحيد الذى أثار القلق، إذ يعد تراجع نسبة المشاركة أمرًا لا يمكن تجاهله، وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية بلغت نسبة المشاركة فى هذه الجولة من الانتخابات 63.23%، أى أقل بنقطتين مقارنة بانتخابات عام 2017، بينما بلغت نسبة الامتناع عن التصويت 28%.
نتائج الانتخابات، أظهرت أيضًا مدى الانقسام وهشاشة المجتمع الفرنسى، وطبقًا للأرقام فقد منح أكثر من نصف الناخبين فى الجولة الأولى أصواتهم لمرشحين ينتمون لأقصى اليمين، مثل لوبان وإريك زمور (الأكثر تطرفاً)، أو لليسار الراديكالى، كما أن 44% من مؤيدى مرشح اليسار الراديكالى جاك ميلانشون، قد امتنعوا عن التصويت، رغم دعوة المرشح اليسارى بشكل واضح أنصاره لمنح أصواتهم ل ماكرون حتى لا تفوز لوبان.
وذكرت صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية نقلًا عن دومينيك رينييه، وهو أستاذ العلوم السياسية فى «معهد باريس للدراسات السياسية»، قوله: «هذا وضع يشهد على هشاشة المجتمع الفرنسى»، وذكّر بأن لوبان تقدمت على ماكرون فى بعض أجزاء البلاد، وكذلك لدى الشباب والطبقة العاملة، أما تارا فارما، وهى باحثة فى المجلس الأوروبى للعلاقات الخارجية، فاعتبرت أن «التحدى الأكبر الذى يواجهه ماكرون يتمثل فى إيجاد شعور بالتماسك، فى بلد مقسم بشدة»، وأشارت إلى أن لوبان ستبذل قصارى جهدها للاستفادة من نتيجتها، فى الانتخابات البرلمانية فى يونيو.
وبعيدًا عن نتيجة الانتخابات، تناولت عدة صحف عالمية أبرز التحديات التى تواجه ماكرون فى ولايته الثانية، وخططه لتحقيق أهدافه وسياسته فى الخمس سنوات القادمة، فى هذا الإطار، ذكرت وكالة «بلومبرج»، أن ماكرون نال فرصة ثانية لإقناع فرنسا بإمكان نجاح رؤيته، وأضافت أن التحدى الذى يواجهه يتمثل فى رأب الصدع وحشد الدعم لخططه، من أجل جعل البلاد أكثر قدرة على المنافسة، من خلال إصلاح السياسات الاجتماعية، مثل رواتب التقاعد، وتحسين الأسس الاقتصادية، ولفتت الوكالة الأمريكية إلى أن المصرف المركزى الفرنسى يقدّر بأن إمكانات النمو للاقتصاد الفرنسى هى أقل الآن مما كانت عليه فى عهد أولاند.
ونقلت «بلومبرج» عن باربرا بومبيلى وزيرة البيئة الفرنسية قولها «علينا إعادة البناء مع الجميع، من دون ترك أى شخص على الهامش، لبناء مجتمع يعيش فيه الناس بشكل أفضل»، وأضافت: «لدينا يمين متطرف قوى، ونسبة أعلى للامتناع عن التصويت، علينا أخذ ذلك فى الاعتبار، ويمكننا فعل ذلك من خلال التفكير أكثر فى كيفية توحيد المواطنين بشكل أفضل».
واعتبرت «بلومبرج» أن الحملة الانتخابية دفعت فرنسا إلى منطقة مجهولة، وحولت المشهد السياسى إلى ثلاث كتل، هى ماكرون فى الوسط، واليسار المتطرف بقيادة ميلانشون، واليمين المتطرف، الذى تكافح لوبان أحياناً للسيطرة عليه، فى ظل منافسة من مرشح اليمين الراديكالى إريك زمور.
أما صحيفة «الجارديان» البريطانية، فرأت أن ماكرون سيواجه ولاية رئاسية أخرى قد تكون أصعب بكثير من فترته الأولى على الأقل، مشيرة إلى أن ينتظره بعض التحديات والأولويات المعقدة، وذكرت الصحيفة أن التحدى الأول والرئيسى ل ماكرون هو تأمين الأغلبية وتعيين الحكومة، إذ تجرى الانتخابات البرلمانية فى يونيو، ويحتاج حزب (الجمهورية إلى الأمام) –الذى أسسه ماكرون– وحلفاؤه إلى أغلبية 289 نائبًا فى مجلس النواب المكون من 577 مقعدًا.
أما عن المعاشات والمدارس والرعاية الصحية والجريمة، فقد أضافت الجارديان أن ماكرون وعد بإصلاح معاشات التقاعد والتى فشل فى تنفيذها فى ولايته الأولى –رفع سن التقاعد تدريجيا إلى 65 بحلول عام 2031 باستثناء أولئك الذين يعملون فى وظائف بدنية صعبة– وأوضح أنه سيتم تطبيقها بحلول الخريف.
وقالت الصحيفة أيضاً إنه من المقرر أن يطلق ماكرون مشاورات مبكرة حول إصلاحات نظام التعليم المركزى فى فرنسا، وإدخال مزيد من الاستقلالية للمدارس والجامعات، ونظام الرعاية الصحية، بهدف تحسين الخدمات فى المناطق الريفية على وجه الخصوص.
وأضافت الصحيفة فى تحليلها أن الشئون الخارجية لفرنسا هى آخر التحديات لماكرون، إذ يجب عليه خلال رئاسة بلاده للاتحاد الأوروبى لمدة ستة أشهر، أن يركز على إعداد استراتيجية يمكن تطبيقها خاصة بأولوية باريس المتمثلة فى تأمين الحدود الخارجية للتكتل والسيطرة على الهجرة السرية، وتعميق التعاون الدفاعى وتطوير نموذج نمو اقتصادى أوروبى قائم على الاستثمار فى التكنولوجيا الفائقة.