قال الدكتور علي جمعة، مفتى الجمهورية السابق، عضو هيئة كبار العلماء، إن الإفتاء أو مرحلة تنزيل الحكم الذي توصل إليه على الواقع الذي أدركه، لابد من التأكد أن هذا الذي سيفتي به لا ينكر على المقاصد الشرعية بالبطلان، ولا يخالف نصا مقطوعا به، ولا إجماعا متفقا عليه ولا قاعدة فقهية مستقرة.
تابع علي جمعة من خلال صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك اليوم:" من الأمثلة الواضحة لكيفية تطبيق تلك المراحل وتغيب عن أذهان غير المتخصصين, مسألة طلاق الغضبان, التي يفتي فيها البعض بغير علم لما سقناه, فيهلك نفسه ويدمر غيره بتشتيت شمل الأسرة وضياع أطرافها".
وأوضح أن فالغضب على ثلاثة أقسام:
أولها: يصاحبه فقد الإدراك والإملاك, وفقد الإدراك أن يبلغ الغضب نهايته, بحيث ينغلق على صاحبه باب العلم والإرادة, فلا يعلم شيئا من أربعة أشياء حوله هي: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال, ويعرف هذا الفقد بالتحقيق معه, وفقد الإملاك هو أنه لا يستطيع أن يمنع نفسه من أن يتفوه بكلمات الطلاق وغيرها, وهذا القسم لا خلاف بين العلماء في عدم وقوع طلاقه, لقول رسول الله ﷺ : "لا طلاق في إغلاق" (سنن ابن ماجه). والإغلاق هو الغضب الشديد.
والقسم الثاني من الغضب هو من كان مدركا إلا أنه فقد الإملاك, فيخرج منه الكلام ولا يستطيع منعه, بحيث صار كالمجنون, وفي هذه الحالة لا يقع الطلاق أيضا على الراجح, إذ الأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعقوده, التي يعتبر فيها الاختيار والرضا, وهو فرع من الإغلاق, كما فسره به الأئمة.
والقسم الثالث: أن يكون للإنسان إدراك وإملاك, حيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه, ويعلم ما يقوله ويقصده, لهذا لا خلاف في وقوع طلاقه, خاصة إذا وقع منه ذلك عن قصد ونية, حتى ولو كان غاضبا, إذ أغلب حالات الطلاق لا تتم إلا في الغضب.
ولفت إلى أن تحذير النبي ﷺ من الغضب كان شديدا, فقد روي أن رجلا قال للنبي ﷺ أوصني, قال: "لا تغضب, فردد مرارا قال: لا تغضب" (البخاري). وقال ﷺ : "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" (ابن ماجه). والطلاق حكم من الرجل يصدره على المرأة, فلا يصح أن يصدر منه وهو غضبان, وإذا صدر ينبغي ألا يقع, حماية للأسرة, وأسوتنا في ذلك أن الله تعالى لم يلق باللوم على سيدنا موسى عليه السلام حين ألقى الألواح بعد أن تملكه الغضب, قال تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ) [الأعراف:154]. فالغضب غول يغتال العقل ويغيبه, ويجعل الإنسان لا يعلم ما يقول, ومن هنا ندرك حكمة الشارع في عدم الاعتداد ب طلاق الغضبان على ما ذكرنا.
وشدد الدكتور علي جمعة، أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره, وتكييفه, وكيفية تنزيل النصوص عليه. ولا يكون ذلك إلا لمن داوم على الأخذ عن العلماء الموثوق بهم, والمشهود لهم, وثابر على الجلوس بين أيديهم, وشرب من كأسهم المترعة بالعلم والحكمة والرحمة, ومارس الفتيا أمامهم حتى أذنوا له بتعليم الناس وإفتائهم.