تمر حياتنا بين متناقضين، فعندما كنا أطفالاً استعجلنا الوقت لنكبر، وعندما كبرنا أصبحنا نفزع أمام سرعة مرور الوقت، ونتمنى أن يتباطأ؛ كي لا نشيخ وتنتهي حياتنا بسرعة. وقالت الشعوب في وصف الحياة: إنها لحظة.
تفهم الكاتبة و المخرجة الفرنسية سيلين سياما هذه الفكرة من خلال فيلمها Petite Maman «الأم الصغيرة» الذي يتمتع بأداء قوي. مدة الفيلم 72 دقيقة، وهذه المدة القصيرة هي عادة لأفلام تتدخل فيها الاستوديوهات كثيراً، وتعلم لو كنت مشاهداً متمرساً أن أمراً جللاً وقع في غرفة المونتاج، وأجبر المخرج على حذف لقطات كثيرة.
لكن الأمر مختلف هنا، إذ إن الفيلم فرنسي، وهذه ليست هوليوود، فالمدة القصيرة هنا متعمدة - ننوه إلى أن هذا ليس فيلماً قصيراً، إذ إن الأفلام القصيرة لا تتجاوز الساعة - ربما لأسباب تتعلق بأسلوب سرد الفيلم الذي ينتهي فجأة أمام الأعين وكأنه صُنع بطريقة ما قل ودل.
الموضوعات التي يطرحها الفيلم كثيرة، مثل وفاة أحد الوالدين، مرض طفولة، الحزن، والشعور بالذنب عندما يموت شخص تاركاً خلفه عملاً غير مكتمل، لكن كل هذه الموضوعات موجودة في سياق مختلف عما لو كانت في فيلم عادي.
ففي أي فيلم عادي سيكون وجودها مؤلماً، لكنها هنا وهذا فيلم يسبح في خيال طفلة فإن العناصر المذكورة تعرض في سياق مريح للمشاهد. كما يقر «الأم الصغيرة» بفكرة لا تخطر على العقل بعد تجاوزه مرحلة الطفولة، وهي القبول بمفهوم أن الشيء السحري قد لا يحدث فقط، وإنما يمكن قبوله دون التشكيك فيه.
الخيال الجامح
بطلة الفيلم نيلي (جوزيفين سانز) تكتشف شيئاً مذهلاً في الفناء الخلفي لمنزل طفولة والدتها. وبدل أن تتساءل أو تشكك فإنها تسايره. هي في سن الخيال الجامح، السن التي تجد الطفل فيها يتحدث وحده، وعندما تسأله مع من تتحدث؟ يقول لك صديقي فلان الجالس هناك، وبالطبع هناك في خياله فقط.
تعطي سياما الثقة للمشاهد ليمضي مع نيلي الآن، وأن يسأل لاحقاً. في هذه الجزئية من الفيلم لا تسأل ولا تتساءل أو تشكك، فقط امض مع الطفلة وأوقف عملية اللاتصديق، فهذا ليس فيلماً يطرح موضوعاً للتساؤل، وإنما هو لقبول مسألة ستكون غير قابلة لتصديق، أي من يشاهده لكنك لا تملك أي خيار آخر سوى قبولها، ولو بحثت عن تفسيرات فستصاب بالإحباط.
توظّف سياما أسلوب السرد البصري نفسه في فيلمها السابق Portrait of a Lady On Fire، فتخبرنا بالعلاقة الوثيقة بين نيلي وماريون (نينا موريز) في المشهد وهما في الطريق إلى منزل ماريون القديم.
تبقى الكاميرا مركزة على ماريون ويد نيلي تدخل إطار اللقطة لتطعمها المقرمشات. تعاد الحركة مرة أخرى وأخرى أكثر مما نتوقع. المشهد يبدو مضحكاً عندما تطعم يد طفلة فم امرأة كبيرة في سياق معاكس لهذا النشاط المعروف الذي يحدث بين أم وطفلتها. ثم تذهب سياما إلى قلب المشاهد مباشرة عندما تحتضن نيلي رقبة أمها وينتهي المشهد.
تذهب ماريون لتنظيف منزل والدتها. عندما يبدأ الفيلم يخبرنا دون «ثرثرة» أن أمها توفيت. تمشي نيلي في منزل يبدو أنه مملوك لعجوز وتودع نساء عدة قبل الدخول في غرفة خالية نرى فيها عصا.
تجهز سياما المشهد الذي نرى فيه العصا في يد صاحبتها، وهو ليس مشهداً استرجاعياً. تقول نيلي لأمها لم يتسن لي أن أقول وداعاً. وتقول لها والدتها أنت دائماً تقولين وداعاً. ترد نيلي لكن الوداع الأخير لم يكن جيداً.
ذلك المشهد قاس! فلا وداع يكون جيداً في حضرة الموت، لأنه بكل بساطة الأخير ولا يتكرر. وليست هناك مفاجأة في أن نيلي تحصل على فرصة ثانية لتحسن وداعها، لكن سياما تقاوم الرغبة في المبالغة فيه.
تؤدي سانز مشهد الوداع دون محاولة إضفاء كمال، وإنما هي فرصة أخرى لتكرار الوداع نفسه. هناك جمال في فكرة إعادة الفرصة لنيلي و«الأم الصغيرة» مليء بلقطات كهذه، لقطات عدم اكتراث تسمح للمشاهد باحتضانها دون بث مشاعر. يعني أن المشاهد هو من يملأ الفراغات.
مغامرة
تستخدم سياما موت جدة نيلي كنقطة انطلاق تحقيق في العلاقات بين الأمهات والبنات. مثل نيلي، نحن لا نعرف الكثير عن طفولة ماريون ولا علاقتها بأمها. وعندما تسأل نيلي والدها (ستيفان فاروبان) عن الغابة والقلعة التي بنتها ماريون عندما كانت طفلة، فإن ماريون تصرف نيلي، وتقول لها إنها لعبة أطفال ولا يجب أن تثير اهتماماً. فترد نيلي: أنا مهتمة أنا طفلة.
في الغابة المحيطة بمنزل جدتها، تكتشف نيلي فتاة في عمرها تماماً اسمها ماريون (غابراييل سانز)، أي كاسم والدتها وتبني قلعة، وتشبه ماريون الطفلة نيلي كثيراً. بالطبع جوزيفين وغابراييل سانز شقيقات في الحقيقة.
عندما تدعو ماريون نيلي إلى منزلها، فإنها تحضرها إلى المنزل نفسه الذي غادرته نيلي عندما خرجت إلى الغابة، لكن من طريق مختلفة. لاحظ ردة فعل سانز المتفاجئة، عندما تضغط على جزء من الحائط فيكشف لها باباً سرياً. تكتشف أن تلك كانت قفزة إلى الماضي، وبعد تردد قصير تقرر السعي خلف المغامرة حيثما تأخذها.
يتمتع الفيلم بقوة وسحر وأصالة نادراً ما نراها في أفلام اليوم، وهو تحفة سينمائية لأنه يتناول موضوعاً كونياً بشكل آسر.