فى أوائل تسعينيات وأواخر ثمانينيات القرن الماضي كانت الصحافة المطبوعة ملء السمع والبصر، وربما هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة غير المقيدة بقيود قنوات التليفزيون المحدودة ومحطات الإذاعة شديدة الانضباط، وكانت مجلة أكتوبر تعيش سنوات ذهبية، نظرا لما تزخر به من عدد كبير من كتاب الرأي، حتى أن بعض المحررين كانوا يتبرمون لطغيان صفحات الرأي على التحقيقات والحوارات الصحفية، مما يقيّدهم فى عملهم.
كان من أبرز كتاب المجلة وأحد أهم نجومها اللامعين المرحوم الدكتور فرج فودة، الذي ينشر له مقال أسبوعي على صفحتين، وفى كل عدد كانت له معركة جديدة تشتد نيرانها وتلهب المجتمع الفكري والثقافى فى مصر، وكان الناس حتى ذلك الوقت يتابعون الصحف والمجلات ويقرأونها باهتمام.
كان لمقالات فرج فودة ردود أفعال هائلة، على الرغم من كونه ظل لسنوات لا يظهر فى وسائل الإعلام؛ نظرا لأن الدولة لم تكن تريد استفزاز الجماعات المتطرفة، فتترك عادل إمام يقدم عرو ضه المسرحية فى أسيوط، لكنها لا تطور قصور الثقافة للحد من انتشار الإرهاب، وتترك فرج فودة يكتب لكن الصحيفة التي ينشر بها هي المسئولة ليكون محسوبا على الصحيفة وليس على الحكومة، وتتركه يترشح لمجلس الشعب عن دائرة شبرا، لكنها تزور الانتخابات لصالح آخر، وهكذا كانت لعبة التوازنات، التي فى النهاية راح ضحيتها فرج فودة.
كتابات الدكتور فرج فودة كانت تتميز بقوة الحجة وخفة الظل، وهو ما كان يميز شخصيته على المستوى الإنساني، وكانت له طريقة لا يضاهيه فيها أحد فكان له أسلوب ساخر أو بمعنى أدق شديد السخرية وردوده حاضرة وأسانيده قوية، لكن أحدا لم يستطع أبدًا أن يثيره أو يدفعه للانفعال، بل هو من كان بسخريته وعلمه الغزير يستفزهم ويزيد من حنقهم بروح ساخرة وخفة ظل يتفرد بهما.
لم يكن يدّعي شيئا من عنده بل من القرآن الكريم و الأحاديث النبوية وكتب التراث، وكان وحده يشكل قوة ضاربة ضد جماعة الإخوان والجماعات السلفية المتطرفة، التي لم تستطع أن تناطحه أو تبادله الحجة بالحجة، لكنهم كما فعلوا مع غيره من أصحاب الرأي لم يستطيعوا فى مواجهته سوى التحريض على قتله!
منذ عدة أيام وتحديدا يوم الثامن من يونيو مرت الذكرى الثلاثين لوفاة الدكتور فرج فودة، الذي قتل غدرا أمام بيته، ولولا سائقه الخاص الذي طارد القاتل كان دمه ضاع هباء، كانت صدمة وفاته كبيرة فى الوسط الثقافى المصري، وكانت جنازته مظاهرة ضد الإرهاب، الذي لم تواجهه الدولة فى ذلك الوقت بما يتناسب مع شروره وتمكنه من عقول الكثيرين، ولو كانت فعلت ربما كانت قد جنبتنا الكثير مما تعرض له هذا الشعب على أيديهم الملوثة بدماء أبنائه.. رحم الله دكتور فرج فودة وكل من حاول إنقاذ الإسلام ممن أساءوا له، والإسلام بريء منهم.