« بنات عبد الرحمن ».. صرخات تهدم جدار الصمت

« بنات عبد الرحمن ».. صرخات تهدم جدار الصمتمحمود عبد الشكور

الرأى16-6-2022 | 12:50

ربما يكون هذا الفيلم الأردني، الذي كتبه وأخرجه زيد أبو حمدان، واشتركت فى بطولته وإنتاجه الممثلة المعروفة صبا مبارك، من أفضل أفلام السنوات الأخيرة تعبيرا عن هموم المرأة العربية عموما.
لا أتحدث فقط على جرأة المعالجة والمواجهة، وتقديم نماذج إنسانية قوية ومؤثرة، تنتقل من الصمت الى الصراخ والتمرد، ولكن بالأساس لأن الكتابة ذكية وغير مباشرة، أي أن الفيلم نجح فى تقديم معادل درامي وسينمائي جيد لقضايا خطيرة مسكوت عنها، بالإضافة إلى تميز الكثير من عناصره كالتمثيل والإخراج والتصوير، وقبل كل ذلك الكتابة بتفاصيل لا تنسى، وبدون أن تفلت فرصة رسم بورتريهات نسائية، تعبر بدورها عن مشكلات نراها ونلمسها، فى كل المجتمعات العربية.
الفيلم بعنوان "بنات عبد الرحمن"، وحبكته تبدو بسيطة وعادية: تجتمع أربع شقيقات معا فى بيت العائلة فى نفس الوقت، الذي يختفي فيه والدهن عبد الرحمن، ويؤدي هذا الإختفاء إلى رحلة بحث فى اتجاهين: بحث عن الأب الغائب وبحث كل واحدة عن مشكلتها، ولكن البحث فى الحالتين صعب وشاق، ومواجهة كل بطلة من بطلات الحكاية لنفسها، ولشقيقتها وماضي الأسرة يتحول تدريجيا إلى فضفضة ورفض وإعلان عن التمرد، ويصبح صراخ البطلات ضد كل ما يؤلمهن عنوانا على الخلاص والميلاد الجديد.
من خلال الرسم الجيد لشخصيات بنات عبد الرحمن الأربع: زينب، وآمال، وسماح، وختام، ننتقل من الخاص إلى العام، وتتكشف مأساة كل أخت بالتدريج، نرى بركانا من الغضب وراء المظهر الهادئ أو الممتثل أو المختبئ وراء الأصباغ والماكياج، كل ابنة تحضر بكامل تاريخها وعقدها، وكأن غياب الأب يمنحهن حرية الحضور وملء الفراغ، وإن كانت بعضهن ترين أن حضور الأب قبل غيابه لم يفرق شيئا، بل لعله كان بسلطته الأبوية، وراء ما عانين فى حياتهن.
زينب تخلت عن حلمها بدراسة الموسيقى، واختارت أن تخدم والدها، وتصبح عانسا تفصل الملابس للعرائس، وآمال تزوجت صغيرة من رجل شرس يسيء معاملتها، فصارت متشددة، تخفي غضبا هائلا بسبب مأساة تزويج ابنتها القاصر، وسماح المتحررة السليطة مبهرجة الملابس والماكياج، تخفي أيضا كارثة إقامة زوجها لعلاقة مثلية مع رجل آخر، والصغرى ختام تريد أن يوافق والدها من شاب صادقته، وتركت أسرتها من أجله.
كلها نماذج كتبت بملامح نكاد نعرفها، وجسدتها ثلاث ممثلات رائعات، عبرن عن مشاعر معقدة ومتباينة ومتغيرة، ما بين مظهر يبدو عاديا، ولكن الداخل يغلي بصراعات شتى وخطيرة، حتى تحين لحظة الانفجار ، وهو ما نراه فى مشاهد ممتازة كتابة وتنفيذا.
ننتقل بسلاسة من اغتراب الشقيقات عن بعضهن، وصراعاتهن العلنية، إلى تفهم ثم تضامن فى مواجهة ظروفهن الصعبة، وصولا إلى مشاركة الشقيقات الأربع فى تهريب هبة، ابنة آمال، حتى لا تتزوج الفتاة المراهقة فى سن الخامسة عشرة، ثم مواجهة آمال لزوجها الشرس بضربه وطرده، ومواجهة زينب للحارة كلها، وفضح كل أسرار الجيران، الذين تفرغوا لإدانة بنات عبد الرحمن، كما تواجه زينب أخواتها بقوة، كاشفة عن تضحيتها من أجل والدها، وتخليها عن حلمها بالموسيقى، والعزف على العود، الذي ارتبط بعلاقة قديمة مع شاب أحبها يدعى جوزيف.
كان لابد من إزاحة الأب مؤقتا، لكي تتحرر بناته، وتجدن الشجاعة للإعلان عن مأساتهن، الأب المريض العاجز هو معادل السلطة، التي دمرتهن رغم أنه مريض طوال الوقت، وحتى رزقه من المكتبة تقف خلفه زينب، والحكاية ليست قصة بنات عبد الرحمن فقط، ولكنها قصة أمهن، التي نسمع عن معاناتها، وهي أيضا قصة الجيل الجديد، الذي تمثلة هبة الهاربة.
هنا ثورة صغيرة وكبيرة فى نفس الوقت: صغيرة لأن محيطها الحارة وبنات عبد الرحمن، وكبيرة لأنها تتضمن محاكمة لكل القيود، التي تحاصر المرأة ومحاكمة لذكور الحارة، وذكور العائلة وللأب، الذي لم ينجب ولدا، فأطلق على نفسه لقب "أبو علي"، ترجمة لحلم لم يتحقق بانجاب ابن اسمه علي !
المحاكمة أيضا للذات وليس للآخر فقط، كل ابنة تواجه نفسها، وكأن مرايا البيت تعكس ذواتهن الداخلية وصورهن الخارجية معا، وكل ثورة أو مونولوج فى مكانه، يخرج من الموقف ومن الشخصية، وكل نموذج يتطور ويتغير من بداية الفيلم إلى نهايته، ولا تكتمل ملامح كل شخصية إلا فى آخر الرحلة.
ربما كان أضعف ما فى الحكاية عودة الأب المفاجئة والعادية، وحالة التصالح، التي عاد بها، وحالة التفاؤل بمستقبل جيل هبة والصبي زيد، هذه المجتمعات المكبلة بالأغلال تحتاج إلى جرس انذار، وليس سهلا أن تزعجها صرخة أو ثورة عائلية، ولكن الفيلم يمتلك أسلحة عظيمة حقا، أبرزها أداء الرباعي صبا مبارك فى دور آمال المتعصبة والمتزمتة، التي تتحول تدريجيا إلى الاعتراف، والتعاطف، نجحت صبا فى أداء كل تفصيلات الشخصية، بما فيها مشيتها وهيئتها وانفجاراتها، مثلما نجحت فرح بسيسو فى أداء شخصية زينب، وإن خذلها صوتها فى مواقف الثورة والانفعال، وكان حنانا حلّوا ومناسبا تماما فى دور سماح الجريئة، التي تخفي مأساة وضعفا مزلزلا، أما مريم باشا فى شخصية ختام ( والاسم تعبير عن أمنية الأب فى ختام إنجاب البنات)، ، فهي تمثل الجيل الجديد المختلف، الذي لا يرتضي بحريته بديلا، وإن كنا فى حاجة إلى معرفة سبب تحولها من الامتثال إلى التمرد على الأب فى الماضي.
لابد من الإشارة إلى تفصيلات مدهشة متناثرة فى قلب البناء، منحته لمسات ذكية وموحية مثل القصاصات، التي تجمعها زينب فى دولابها من أقمشة زبائنها، ثم تقوم بتطييرها والتخلص منها بعد تحررها، ومثل الراديو الذي يعيدنا إلى حضور الأب، والراديو نفسه ينقل أخبار انتهاك حقوق الإنسان العربي على مستويات مختلفة، ومثل لمبة مدخل البيت، التي تضيء وتنطفئ بشكل عشوائي، ثم تضيء احتفالا بثورة البنات على الحارة، ومثل صورة الأم التي أجيد توظيفها فى كثير من المشاهد، خاصة لحظة فضفضة آمال وسماح وهما تشربان السجائر، القطع إلى صورة الأم معهما يؤكد أنهما امتداد لمأساة الأم، وللسيطرة الذكورية، التي عانت منها أمهما من قبل.
هذا مجتمع نسائي متنوع وغريب، بين الجينز والعباءة، بين التحفظ والانفتاح، ولكنه يعاني من طوفان من المشاكل مع سلطة الرجال، ومع التقاليد والعادات القديمة.
مجتمع فى قلب الحداثة، ولكنه مشدود إلى الماضي بقيود وأغلال، والأب لا يزال يمتلك سلطته رغم مرضه وتهميشه، شبح عجوز بأداء مميز من خالد الطريفي، الفيلم لا يريد محوه، ولكنه يبحث عن رجل من طراز مختلف، بخلاف عبد الرحمن، وبخلاف معتز الشاب المتحرش فى الحارة، وبخلاف سعيد زوج آمال الشرس، وبخلاف نبيل، الذي ترك سماح من أجل رجل يعشقه.
ربما يكون الأمل فى الصبي زيد، فهل يمكن أن يولد بسهولة هذا الرجل القادم من قلب تلك البيئة المعادية، التي تدين النساء دون أن تسمعهن، التي ترى أن موت الزوجات أفضل من طلاقهن؟!!

أضف تعليق