تشهد منطقة المحيط الهادئ تطورات بالغة الأهمية بعد محاولة الصين الجريئة لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، حيث سعت خلال الأيام القليلة الماضية إلى تشكيل تكتل يجمعها بدول جزر المحيط الهادئ عبر جولة وزير خارجيتها وانج يي التي شملت ثمانية بلدان، بدأها بجزر سليمان في 26 مايو، واختتمها بجمهورية تيمور الشرقية في 4 من الشهر الجاري.
ووفقًا لمجلة "ذي ديبلومات"، المتخصصة في الشؤون الآسيوية، لم تنجح الصين في تحقيق غايتها من هذه الضغوط التي لم تسفر إلا عن إعادة تقييم الروابط الإقليمية وتنظيم بعض الصفوف على المستوى الداخلي، محدثة نقلة نوعية في اتجاه مغاير تمامًا عمّا تسعى الصين لتحقيقه؛ إذ عارضت دول جزر المحيط الهادئ بشدة التعامل معها كأنها مجرد "بيادق على رقعة شطرنج" في هذه اللعبة.
وبسبب مساعي بكين لبسط نفوذها على المنطقة، تعرضت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لانتقادات شديدة مطلع شهر فبراير الماضي على خلفية عدم استغلال الفرص التي توفرها اتفاقية التجارة الحرة في منطقة المحيط الهادئ، حيث لم تحرز حكومة بايدن منذ تسلمه السلطة في يناير 2021 أي تقدم في المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية "وولايات ميكرونيزيا الموحدة"، و"جمهورية بالاو" و"جمهورية جزر المارشال". لكن مع تخفيف قيود السفر المتعلقة بجائحة "كورونا" تسارعت الأحداث على المسار الدبلوماسي، وبادر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بزيارة مهمة لتلك المنطقة في منتصف فبراير الماضي أكد من خلالها امتداد انتماء الولايات المتحدة الأمريكية لمنطقة المحيط الهادئ وحرصها على تعزيز دورها الإقليمي.
وعندما التقى بلينكن بنائب رئيس وزراء "جمهورية فيجي"، أياز سيد قيوم، أعرب الأخير عن تخوف دول المنطقة من التعامل معها "كبلدان مهمشة، وباعتبارها مجرد نقاط صغيرة يطل عليها القادة السياسيون من نوافذ طائراتهم أثناء سفرهم لحضور اجتماعات يتحدثون فيها عنا، لا معنا".
وفي إحدى الاجتماعات الافتراضية التي عقدها وزير الخارجية الأمريكي على هامش "منتدى جزر المحيط الهادئ" (الذي يضم في عضويته 18 دولة وإقليم بينها استراليا ونيوزيلاندا، أكد بلينكن اعتزام بلاده تغيير وجهة النظر هذه، بل وذهب إلى حد الإعلان عن استعداد واشنطن إعادة فتح سفارتها في جزر سليمان بعد إغلاقها منذ عام 1993. وكذلك ضمّنت واشنطن الجزر ضمن استراتيجية منطقة المحيطين الهندي والهادئ (الإندو-باسيفيك) الصادرة عن البيت الأبيض.
ورغم الجهود الأمريكية، وفقًا لمجلة "ذي ديبلومات"، أعلنت حكومة جزر سليمان في أواخر مارس المنصرم أنها بصدد دراسة توقيع "اتفاقية إطارية مع الصين"، فيما جاء هذا الإعلان بعد تسريب مسودة الاتفاقية على مواقع التواصل الاجتماعي. وإثر التسريبات، انطلقت وفود أسترالية إلى جمهورية جزر سليمان في محاولة للحيلولة دون توقيع هذه الاتفاقية كما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية عن زيارة وفد رفيع المستوى إلى هونيارا (عاصمة جزر سليمان) خلال أسابيع قليلة من الإعلان عن هذه الاتفاقية، إلا أن الاتفاقية كانت قد وُقِّعت بين جزر سليمان و الصين في 31 مارس الماضي قبل وصول الوفد الأمريكي.
وأشارت "ذي ديبلومات" إلى أنه سرعان ما تبادلت الأطراف السياسية داخل أستراليا الاتهامات، وذلك خلال حملة انتخابات مصيرية. ونظرًا لضعف موقفها بعد توقيع الاتفاقية الأخيرة بين الصين وجزر سليمان، لجأت حكومة رئيس وزراء أستراليا السابق، سكوت موريسون، إلى الخطابات المناهضة للصين، لدرجة أن موريسون بدأ يتحدث عن ضرورة ألا تتجاوز الصين بعض "خطوطها الحمراء" في منطقة الباسيفيك، بينما دعا وزير دفاع أستراليا المواطنين حينها إلى "الاستعداد للحرب".
وبعد خسارة حكومة المحافظين بقيادة موريسون في الانتخابات التشريعية في مايو الماضي، والفوز الساحق لرئيس حزب العمال الأسترالي، أنتوني ألبانيزي، بدأ الأخير العمل على قضية تغير المناخ التي تعرقل مسار العلاقات الأسترالية مع دول منطقة المحيط الهادئ، ودعمه في ذلك فوز سبعة من أعضاء مجلس النواب المستقلين المهتمين بالعمل المناخي.
كما تبنت الحكومة الأسترالية الجديدة حزمة من السياسات الأخرى التي تستهدف معالجة أوجه عدم الإنصاف الاقتصادي التي طالما عانت منها جزر المحيط الهادئ، مثل العمل على زيادة تأشيرات العمل الأسترالية، وتوفير المزيد من الفرص التي تسمح لمواطني تلك الجزر بالعيش في أستراليا.
وقد حرصت الحكومة الأسترالية الجديدة على تأكيد هذه الرسالة خلال أيام قليلة من تسلمها السلطة، وبدا ذلك جليًا في الخطاب الودي الذي تلته وزيرة خارجيتها الجديدة، بيني وونج، أمام "منتدى جزر المحيط الهادئ" في سوفا (عاصمة جمهورية فيجي) بعد أيام قليلة من تسلم منصبها الجديد.
كما وقع رئيس وزراء فيجي، فرانك باينيماراما، خلال زيارة وزيرة خارجية أستراليا اتفاق "الإطار الاقتصادي لمنطقتي المحيطين الهندي والهادئ" الأمريكية، ما يُعد فوزًا دبلوماسيًا كبيرًا للولايات المتحدة الأمريكية.
وفي غضون ذلك، كان وزير الخارجية الصيني، وانج يي، يزور جزر سليمان ضمن جولته إلى ثماني دول (جُزر) بجنوب المحيط الهادئ، ثم شارك بالحضور في "منتدى جُزر المحيط الهادئ" في 30 مايو لمناقشة إمكانية توقيع إحدى الاتفاقيات المقترحة من الصين والتي تحمل اسم وثيقة "رؤية التنمية المشتركة" بين الصين ودول جزر المحيط الهادئ.
وقبيل انعقاد فعاليات هذا المنتدى، دعا رئيس "ولايات ميكرونيزيا الموحدة"، ديفيد بانويلو، أعضاء المنتدى (الذي ترتبط أربع من دوله الأعضاء بعلاقات مع تايوان) إلى رفض عرض الصين بخصوص توقيع الاتفاقية واسعة النطاق، مبررًا موقفه بأن الاتفاقية "تسعى إلى ربط جميع اقتصادات الدول الأعضاء ومجتمعاتهم بالصين".
وفي كلمة له حول قرار التوقيع من عدمه، قال الأمين العام لمنتدى جُزر المحيط الهادئ، هنري بونا، إنه رغم الاعتراف بأهمية الصين كشريك إقليمي، إلا أن عشر دول أعضاء ترفض توقيع الاتفاقية، ثم أكد، بأسلوب دبلوماسي لبق، أهمية اضطلاع الصين بمسؤولياتها بصفتها شريكًا إقليميًا مهمًا من خلال العمل على زيادة جهودها المناخية وتعزيز مساهمتها المحددة الوطنية فيما يخص التعهد بإبقاء الاحترار العالمي في حدود 1.5 درجة مئوية، مع الوصول بالانبعاثات الكربونية إلى المستوى الصفري بحلول عام 2050.
ورغم ذلك، لم يعد وزير خارجية الصين إلى بلاده خاوي الوفاض، إذ نجح في توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية مع بعض الدول؛ الأمر الذي وصفه "راديو نيوزلندا" بـ"النجاح الطفيف".
ووفقًا لمجلة "ذي ديبلومات"، لم تقتصر نتائج الضغوط الصينية بالمنطقة على ذلك فحسب، فقد ساهمت هذه الضغوط، على جانب آخر، في جمع شمل دول "منتدى جزر المحيط الهادئ" بعد تهديد بعضها بنقض هذه الشراكة وانتهت بإبرام "اتفاقية سوفا" في السابع من يونيو الجاري والتي كانت بمثابة إعادة إحياء للمنتدى.
وأكدت الاتفاقية على مبدأ تقاسم السلطة بين الأقاليم الثلاثة الفرعية - إقليم بولينيزيا وإقليم ميلانيزيا وإقليم ميكرونيزيا – بحيث يتولى كل إقليم منصب الأمين عام للمنتدى بالتناوب، مع تعيين نائبين للأمين العام، إلى جانب استحداث منصب مفوض منطقة المحيط الهادئ بحيث يكون في مقر مكتبه في ميكرونيزيا.
وحسب وصف رئيس جمهورية "ولايات ميكرونيزيا الموحدة"، ديفيد بانويلو، "انقشعت سحابة سوداء عن منطقة المحيط الهادئ" بتوقيع اتفاقية سوفا.
لكن في تناقض صريح مع الرؤية الدفاعية التي تتبناها كل من الولايات المتحدة وأستراليا، أكد وزير دفاع فيجي، إنيا باكيكوتو سيرويراتو، أن مشكلة تغير المناخ تبقى الشاغل الرئيسي لدول جزر المحيط الهادئ، مشيرا، في كلمته أمام "منتدى جزر المحيط الهادئ"، إلى أن "دول جزر المحيط الهادئ لا يشغلها خطر المنافسة الجيوسياسة، بقدر حربها من أجل حياة شعوبها المهددة من جميع الجهات".
وأضاف أن خطوط المواجهة بالنسبة لجزر المحيط الهادئ قد لا يكون لها أية علاقة بأحدث التقنيات التي تفوق سرعة الصوت، لكنها تتمثل في الأعاصير والفيضانات.
وترى مجلة "ذي ديبلومات" أن الأسابيع المقبلة ستشهد المزيد من الأحداث المصيرية بمنطقة المحيط الهادئ على ضوء ما شهدته من أحداث مهمة خلال الأسابيع القليلة الماضية، مضيفة أنه في ظل سعي الصين لتسوية اتفاقها الإقليمي وإعادة إحياء "منتدى جزر المحيط الهادئ"، يمكن التركيز على بعض الأحداث المتوقعة، مثل انتخابات بابوا غينيا الجديدة المقرر انعقادها في يوليو المقبل.
ورغم ما يبدو من وجود بعض المساحة للتحرك بحرية في منطقة المحيط الهادئ، إلا أن القوى الدولية التي تسعى لتثبيت أقدامها بالمنطقة تواجه مهمة صعبة؛ فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، ترى "ذي ديبلومات" أهمية استمرارهما في الإنصات إلى دول المنطقة، مؤكدة أن بناء العلاقات لا يحدث بين عشية وضحاها، كما أن تطبيق مفهوم التالانوا (كلمة بلغة فيجي تعني نقل الأفكار وتبادل الخبرات في إطار عملية طويلة لبحث المشكلات ومعالجتها) يتطلب تكريس بعض الوقت والجهد والموارد.