"دفاتر مايا".. الحب يتحدى الجنون

"دفاتر مايا".. الحب يتحدى الجنونمحمود عبد الشكور

الرأى22-6-2022 | 10:27

تظل الحرب الأهلية موضوعا محوريا فى السينما اللبنانية حتى اليوم، بمعالجات مختلفة، وبتنويعات لا تنتهي، ولكن فيلم "دفاتر مايا" من إخراج جوانا حاجى توما وخليل جريج، وهو فيلم إنتاج لبنانى فرنسى قطرى كندي، اشترك فى المسابقة الرسمية لمهرجان برلين 2021، يمتلك رؤيته المختلفة للحرب، حيث يضعها فى إطار سنوات الثمانينيات، ويجعلها محورا للذاكرة المستعادة، استلهاما من خطابات حقيقية لمخرجة الفيلم جوانا حاجى توما، تبادلتها من صديقة لها فى الفترة بين عامى 1982 و1986، وهذه السنوات كانت أياما صعبة وشاقة، باستمرار معارك الحرب الأهلية اللبنانية الشرسة، والتى عانى منها جيل جوانا أيضا.


الفيلم لا يحقق نجاحه فقط بهذا الاستدعاء الحميم من خلال صندوق للذكريات، تستعيده مايا بطلة الفيلم المقيمة فى كندا، إثر وفاة صديقتها ليزا الهبر، الطرف الثانى من المراسلات، وكانتا قد افترقتا منذ 30 عاما، ولكن الفيلم يعمل على فكرة مواجهة هذا الماضى المؤلم، والتصالح معه، بأن يضع الحب فى مواجهة جنون الحرب، من خلال حكاية حب مايا وهى شابة، للفتى رجا، والإيحاء باستعادة هذا الحب فى الزمن الحالي.

الفيلم يقدم التحية أيضا لضحايا المأساة والجنون، مثلما يقدم التحية للصور ثابتة ومتحركة، سواء عبر كاميرات زمان، وأفلام الأبيض والأسود، أو عبر كاميرات اليوم، ديجيتال وفيديو، وكاميرات المحمول، الصورة هى الذاكرة المستعادة المحفوظة، ولولا بعض الملاحظات لكان هذا الفيلم فى مستوى آخر أرفع، لأنه عمل ذكى ومؤثر فى كثير من تفاصيله.

يمكن تقسيم السيناريو الى أربعة أجزاء، ننتقل فيما بينها بشكل جيد: الجزء الأول محوره وصول صندوق ذكريات عبر البريد إلى مايا، التى تعيش منذ سنوات طويلة فى مونتريال، معها أمها، وابنتها الوحيدة أليكس، الأم لا تريد أن تفتح مايا الصندوق، لأنه يتضمن ذكريات مؤلمة جدا، عن سنوات الحرب فى الثمانينيات، لكن الابنة أليكس هى التى ستكتشف بعض الصور والخطابات، لتتأمل ماضى مايا أمها فى سن الشباب، وحكاية حبها لرجا، الذى ينخرط فى الحرب، ثم يبعده والده عن مايا، بتسفيره للدراسة فى الاتحاد السوفيتي.

فى هذا الجزء استغلال بارع وممتاز للصور، وتحويل الثابت إلى متحرك، بألوان الثمانينيات الباهتة، وبتدخل جرافيكي، يحول القصف والانفجارات إلى رسومات تشبه الكوميكس، وخيال الابنة أليكس يتدخل فى السرد، فهى شريكة استعادة الذاكرة، التى تقدم هنا بصورة متعاطفة، حيث يتفتح شباب الثمانينيات، على الموت والدمار، ولكن إرادة الحياة قوية للغاية، ومشاهدة الأصدقاء لفيلم "شبح الأوبرا"، يرد على شبح الحرب فى الخارج، وخطابات مايا إلى ليزا الهابر تسجل كل شيء، وكأنها تكتب قصة مصورة، مليئة بالحيوية، ولا تخلو كذلك من حديث عن مأساة مقتل شقيق مايا، ووالدها عادل، المدرس المثالي، فى الحرب الأهلية.

الجزء الثانى يبدأ بمواجهة أليكس لأمها مايا، بعد أن اكتشفت الأخيرة سرقة صورها وخطاباتها، وهنا تقرر مايا أن تحكى لأليكس القصة بتفاصيل إضافية، خصوصا فيما يتعلق بانضمام رجا إلى المليشيات المتحاربة، أو بتطور علاقتها معه إلى علاقة جسدية، أو بانهيار عادل، والد مايا وجد أليكس، بسبب مقتل ابنه، وإغلاق مدرسته، وهو انهيار سيدفعه لإدمان الخمر.

هذا الجزء أيضا جيد وذكي، يكسر رتابة مواجهة أليكس للصور والخطابات بمفردها، ويدخل صوت مايا كمعلق على الخطابات، وكان هذا الجزء يحتمل أيضا أن نسمع صوت أليكس، التى تمثل الجيل الجديد، فى حوار مع أمها.

أما الجزء الثالث الهام فهو لمايا وحدها تتذكر، ويتعلق بالسر، الذى أخفته عن ابنتها، فالجد عادل لم يقتل فى الحرب، ولكنه أطلق على نفسه النار، يأسا ومرارة من انهيار عالمه كله، وتواطأت زوجته والابنة مايا فى إيهام الجميع بأن عادل قتل ولم ينتحر، حتى تظل صورته حية كبطل.

رغم الدلالة القوية لمأساة عادل، إلا أن مشهد تواطؤ الأم مع ابنتها مايا بدا مفتعلا وغير مقنع، وفيه الكثير من الهدوء الذى لا يمكن تخيله، كما أن الإعلان عن انتحار عادل، وليس مقتله، أمر طبيعى لرجل لم يتحمل المأساة، ولا يناقض مفهوم البطولة، بل لعله يذكرنا بمفهوم مواجهة الهزيمة عند القادة الرومان القدامى، والتواطؤ الذى شاهدناه، كان يمكن أن يدمر حياة شابة مهزومة من قبل فى الحب، لا أن يجعلها تبدأ حياتها فى كندا من جديد !

الجزء الرابع، يقدم فرصة للتفاؤل، بذهاب مايا وابنتها أليكس الى بيروت المعاصرة، لحضور جنازة ليزا، وفى القداس بالكنيسة، تلتقى مايا بصديقاتها، وبرجا، الذى لا نعرف عنه الكثير، ولكنه سيرقص مع مايا، وسيغنى الأصدقاء أغنيات الثمانينيات، وسترسل أليكس لجدتها فى مونتريال بكندا، صورا وفيديوهات لشروق وغروب الشمس فى بيروت، فى تحية أخيرة للصور وللكاميرات، وفى دلالة بصرية جميلة على تغير الحياة، التى لا تتوقف عند مرحلة معينة، وهذا بالضبط معنى التجربة القاسية، والفيلم بأكمله مهدى "إلى أولادنا"، أى الأجيال الجديدة، التى يفترض أن تكون تعلمت من درس الحب، والتى يجب أن تتمسك بالحب، وأن تدافع عن الحياة والأمل.

هذه نهاية متفائلة تتسق مع حكاية رجا ومايا، وإن كنا لم نعرف الكثير عن وضع رجا الحالي، كما أن السيناريو تورط فى الحديث عن صديق فى كندا لمايا، نراها معه فى لقاء حميم، بينما يفترض أن تستعيد حكاية رجا ومايا قوتها من جديد، بعد كل هذه السنوات.

هذه العلاقة محورية، وكان يجب أن تظل حاضرة، ولو على مستوى السرد الشفوي، رغم سفر رجا إلى الاتحاد السوفيتي، ورغم زواج مايا وإنجابها لأليكس، من زوج لا نعرف عنه شيئا.

ثغرة أخرى واضحة هى ليزا الهابر، التى تبدو شخصية شبحية فى الفيلم، رغم أن التفاصيل عن حياتها كان يمكن أن تثرى سنوات الثمانينيات، كما بدت أسباب انقطاع خطابات مايا لصديقتها غير مقنعة.

ولكن الفيلم يمتلك على وجه العموم شحنة عاطفة وإنسانية، ومهارة تقنية واضحة، مع قدرة على استعادة أجواء الثمانينيات، سواء فى الحرب أو فى الحب، وبراعة لافتة فى دمج الصور الثابتة بالمتحركة، عبر مونتاج سلس، وشريط صوت ممتلئ بأصوات متحشرجة، قادمة من شرائط الكاسيت المنقرضة.

تبدو المسافة واسعة فى البداية بين جيل أليكس، التى تتحدث الفرنسية، وجيل الجدة، التى لم تتعلم العربية، رغم معيشتها فى كندا، ولكن الذاكرة المستعادة فى صندوق، ستقرب المسافة بين الجميع، وستعلّم مايا (بأداء جيد من التونسية ريم تركى رغم مشكلات فى اللهجة) أن تتصالح مع ماضيها، وأن تنظر إلى المستقبل ببعض التفاؤل.

غدا يوم آخر، ولكن الماضى أيضا لا يموت، وإنما يعيش فينا، حتى النهاية.

أضف تعليق

حكايات لم تنشر من سيناء

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2