يقدم الفيلم المغربى "علّى صوتك" لل مخرج نبيل عيّوش تحية بالغناء للفن، ولجيل جديد من الشباب، يريد أن يعبّر عن نفسه، وأن يواجه واقعه الصعب، ورغم بعض الملاحظات المهمة على بناء الفيلم، وطريقة معالجته لموضوعه، فإن الفيلم، الذى عرض فى المسابقة الرسمية فى مهرجان كان 2021، تصل إلينا فكرته بالأساس، بفضل حيوية أبطاله الشباب، وبفضل أغنياتهم الجميلة التى ملأت الفيلم.
يتقاطع هذا العمل مع تجارب كثيرة، ترى فى الغناء المختلف، أو الموازي، تعبيرا عن صوت التمرد، وعن محاولة البحث عن طريق بعيدا عن كل ما هو تقليدي، تراه صرخة جيل، وليس مجرد غناء، مثل فيلمنا المصرى المميز "ميكروفون"، الذى قدم التحية لجيل يريد انتزاع الميكروفون فى الإسكندرية، من خلال الفرق الغنائية التى كانت منتشرة هناك.
"علّى صوتك"، وعنوانه الرسمى بالإنجليزية "casablnca beats" أو "إيقاعات كازابلانكا"، يستلهم تجربة فنية للمخرج نفسه، بإنشاء مركز فنى فى حى سيدى مؤمن فى مدينة الدار البيضاء، لتعليم أغنيات الراب، ورقصات الهيب هوب، وهذا الحى بالتحديد اشتهر فى العالم كله، بأنه خرج منه 12 شابا انتحاريا فى العشرينات من أعمارهم، قاموا بتفجيرات مروعة فى المدينة الشهيرة فى العام 2003، مما أدى لمقتل الانتحاريين الشباب، ومقتل أجانب ومدنيين، ورجال للشرطة، وقد أخرج عيوش فيلما سابقا عن هذه المأساة الصادمة بعنوان "يا خيل الله"، وها هو يعود إلى سيدى مؤمن بفيلم عن تجربة شباب الراب فى المركز الفني، أو مدرسة الراب الإيجابي، كما يطلق عليها الفيلم، وكأن الغناء يرد على إرهاب الماضي، ويترجم أيضا حالة التمرد والرفض بين شباب اليوم، ويرفع من سقف التعبير عاليا بتناول كل الموضوعات فى أغنيات الراب.
وإن كان فيلم "علّى صوتك" يؤكد من جديد أن الصراع مستمر، بين قوى التعصب والتشدد، وبين هذا الجيل الذى يمارس التعبير عن نفسه، من خلال أغنيات الراب، وعبر رقصات الهيب هوب.
يقوم بناء الفيلم على خط درامى بسيط: مغنى الراب أنس بسبوسى يذهب لاستلام عمله فى المركز الفني، يحاول نقل فلسفة أغنيات الراب التى نشأت فى نيويورك، عبر السود، الذين يعلنون من خلالها عن تمردهم، والذين نجحوا فى توصيل صوتهم وفنهم إلى ملايين فى كل مكان.
يتجاوب الطلبة مع أنس، ويجدون أنفسهم فى الراب، ونعرف لمحات عابرة عن ظروفهم الخاصة، وبينما يتبلور حصاد التجربة فى حفل غنائى أمام جمهور الحي، يعترض أولياء الأمور المتشددون والمحافظون، فيترك أنس المركز، بعد رضوخ مدير المركز للضغوط، ولكن الطلبة يودعون أنس بأغنية جماعية، تؤكد أنهم مستمرون، ولن يهربوا من المواجهة.
يبدأ الفيلم بذهاب أنس إلى سيدى مؤمن، فبعد مشاهد سريعة للدار البيضاء الغنية، ننتقل فجأة إلى حى سيدى مؤمن فى لقطات تؤكد الفقر والفوضى والإهمال، يسأل أنس عن المركز الفني، فلا يعرف البعض الطريق، وينتهى الفيلم بترك أنس للحي، نراه من جديد داخل سيارته، ولكن على شريط الصوت نسمع أغنية طلبته الرائعين.
لا بأس أبدا من استلهام قصص الطلبة، ولا بأس فى أداء الشباب والبنات، ولا فى هذا المزيج من الكلام المكتوب، ومما يبدو كما لو كان ارتجالا فى تعبير الشخصيات عن آرائها، وهم يتجادلون مثلا عن حدود حرية التعبير فى كلمات الراب، ما بين من يرى وجود خط أحمر مثل الدين، وبين من لا يرى سقفا للتعبير، ولكن ظهرت مشكلات واضحة فى المعالجة أولها شخصية أنس، التى اعتبرها الفيلم مجرد لسان للشرح، ومجرد وسيلة للتعرف على عالم الطلبة، مع أنها شخصية محورية، ويجب أن نعلم عنها الكثير، على الأقل يجب أن نعرف أشياء عن ماضيه، وعن مشكلات يبدو أنه واجهها بسبب أغنيات الراب التى قدمها.
نحن لن نعرف مثلا لماذا اتجه أنس إلى تعليم الموسيقى والراب، بدلا من مسيرته كمغن، أو لعل صناع الفيلم اعتمدوا على أن قصة الرجل معروفة للمغاربة، فاكتفوا بذلك، كما أن أنس بدا غريبا فى البداية وهو ينتقد كتابات البنات والأولاد، ويسخر منها، مع أن الأصل فى الراب هو حرية التعبير الشخصى والذاتي، وليس التوجيه، ولكن الفيلم سار بعد ذلك فى طريق حرية شخصياته، ودعم أنس الكامل لهم.
المشكلة والملاحظة الثانية فى أن حكاية البنات والأولاد قدمت بشكل سطحى وعابر، وظلت متأرجحة بين التعبير من خلال مواقف، أو من خلال الأغنيات نفسها، هناك مزج من النوعين، وكان الأفضل أن تكمل الأغنيات المواقف الدرامية، أى أن الدراما هى الأساس، وتترجمها أغنيات الراب، بعض الأغنيات جميلة وملهمة فى حد ذاتها، ومع ذلك بدت مفاجئة، أو معلّقة فى الفراغ، أو بدون تمهيد أو مساندة درامية قوية.
كان صوت المحاورات والمناقشات وكلام أنس لطلبته أعلى أحيانا من صوت الدراما، وربما كان الحوار يكرر أحيانا معنى بعض الأغنيات، ولكن لابد من التنويه إلى وجود مشاهد جيدة جدا للتعبير بالرقص عن فكرة التمرد والتحرر، مثل رقصة فتاة على سطوح بيتها، فى محاولة لكى تتحرر من حبل الغسيل، ولكى تنطلق بجسدها فوق كل المخلفات الصلبة، وفوق الأسلاك، ومثل مشهد الرقصة الجماعية الأخيرة للطلبة والطالبات، بعد ترك أنس للمركز، وفيها تعبير حركى قوى عن قوة وطاقة الشباب.
هناك إشارات لوجود المتشددين، بل إنهم يهاجمون الحفل الذى تقدم فيه الأغنيات والرقصات، ولكننا نجد وسط الفريق فتاة محجبة تغنى وتعبر بالراب عن نفسها، ونرى فتاة ترفض سيطرة شقيقها، لمجرد أنه رجل، وثالثة ترفض أن تكون الفتاة ذات الملابس المتحررة مسؤولة عن التحرش، وشاب يرفض مطالبات أصدقائه بأن يتوقف عن الغناء، لأن الموسيقى حرام، وهناك أيضا تحية لحرية التعبير عموما حتى عن الأفكار السياسية، هناك ثقة وتعاطف مع هذا الجيل، الذى يعانى من البطالة، ومن الفقر، ومن غموض المستقبل.
ينحاز نبيل عيوش إلى الفن باعتباره مواجهة وفعلًا إيجابيا، ويتحدى أنس بيروقراطية مديرة مركز الفنون، التى أغلقت الأستديو ففتحه أنس، والتى تبدو مترددة، بين الإقدام والإحجام، ولكن صوت الغناء يبقى مسيطرا، ويظل فى الذاكرة.
على الأقل، فإن الفيلم يذكرنا بأن هناك فى سيدى مؤمن من يقاوم ويواجه، وهناك من يفضفض بالغناء والرقص، بدلا من أن ينتحر بالقنابل، أو بالأحزمة الناسفة.