تحويلات العاملين بالخارج.. دماء تتجدد في شرايين الاقتصاد

تحويلات العاملين بالخارج..  دماء تتجدد في شرايين الاقتصادعملات

أكثر ما يميز تحويلات العاملين بالخارج أنها مصدر دائم لتدعيم احتياطيات الدولة من النقد الأجنبي، يتزايد في حال الأزمات الاقتصادية، التي تصيب اقتصادات الدول، بحيث تجد انتعاشة في هذا المصدر المتجدد لدعم شرايين الاقتصاد، بما يسهم في سد جزء مهم من الفجوة التمويلية، التي يعانيها الاقتصاد، وهذا ما نشهده في تحويلات المصريين العاملين بالخارج، التي شهدت طفرة خلال السنوات الأخيرة، التي تعصف فيها الأزمات باقتصادات العالم، وهذا ما كشفت عنه أرقام البنك المركزي المصري.

تظل تحويلات المصريين العاملين بالخارج متربعة على قمة محفزات الاقتصاد المصري، بما تحققه من معدلات نمو تخالف كل التوقعات، بحيث فشلت جائحة كورونا وأزمة سلاسل الإمداد والحرب الروسية الأوكرانية في فرملة أو تعديل معدلات نمو تحويلات المصريين بالخارج، ليبقى هذا المصدر المتنامي للنقد الأجنبي في المقدمة بين مصادر النقد الأجنبي للاقتصاد المصري، بما يدلل على أن المصريين أكثر الناس إدراكا بتطورات الوضع الاقتصادي.

تعرف تحويلات العاملين، وفق دليل ميزان المدفوعات لصندوق النقد الدولي، بأنها تحويلات جارية خاصة تضم السلع والأصول المالية من مهاجرين أو عاملين مقيمين خارج الدولة لفترة سنة أو أكثر إلى أشخاص فى دولهم الأصلية، فيما تكون تحويلات العاملين بالخارج لفترة تقل عن سنة دخلاً تم الحصول عليه من العمل لصالح جهة غير مقيمة، تدخل ضمن تعويضات العاملين تحت بند الدخل فى ميزان المدفوعات.

زيادة التحويلات

بلغت تحويلات المصريين العاملين بالخارج، بحسب البنك المركزى المصري، فى أبريل 2022 نحو 3.1 مليار دولار مقابل نحو 2.5 مليار دولار أبريل 2021، بنمو قدره 24.4% على أساس سنوي، إلا أنها تراجعت بنحو 7.2% على أساس شهري، حيث حققت تحويلات العاملين مارس 2022 نحو 3.3 مليار دولار، بما أسهم فى زيادة إجمالى التحويلات خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالى بمعدل 7.7% على أساس سنوي؛ لتصل إلى نحو 11.1 مليار دولار، مقابل 10.3 مليار دولار خلال الفترة المناظرة عام 2021.

ويقف وراء هذه الطفرة فى إجمالى تحويلات العاملين بالخارج نحو 14 مليون مصرى يعملون خارج الحدود المصرية، بحسب تصريح نبيلة مكرم عبيد، وزيرة الهجرة وشئون المصريين بالخارج فى ديسمبر الماضي، وأن غالبية المصريين المقيمين بالخارج يتركزون فى الدول العربية، حيث تأتى المملكة العربية السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة فى المقدمة.

شهدت تحويلات المصريين بالخارج، وفقا لبيانات مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، خلال عام 2021 مستويات غير مسبوقة، بتحقيق نحو 31.5 مليار دولار بنمو قدره 72% خلال الفترة (2015 – 2021)، حيث تذهب الأرقام إلى سيطرة الاتجاه التصاعدى على منحنى الأداء خلال الفترة، حيث بلغت عام 2017 نحو 24.7 مليار دولار؛ ليأتى عام 2018 لتصل التحويلات إلى 25.5 مليار دولار، وفى عام 2019 نحو 26.8 مليار دولار، بينما بلغت فى 2020 نحو 29.6 مليار دولار، ثم كان عام 2021، الذى حققت فيه تحويلات العاملين نحو 31.5 مليار دولار.

موارد النقد

تمثل تحويلات المصريين العاملين فى الخارج أحد أهم موارد النقد الأجنبي، خاصة خلال السنوات الأخيرة، التى ضربت فيها الأزمات أركان الاقتصاد العالمي، بما أسهم فى تراجع أداء موارد النقد الأجنبى الأخرى، وأهمها قطاع السياحة، الذى تأثر سلبا من جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وعائدات قناة السويس مع انحسار معدلات التجارة العالمية وتنامى أزمات سلاسل الإمداد.

وانخفضت إيرادات السياحة منذ ثورة 25 يناير 2011 بنحو 90%، جراء تعاقب الأزمات، التى ضربت القطاع فى مقتل، وتمثلت هذه الأزمات المتعاقبة فى الانفلات الأمنى وعدم استقرار الأوضاع السياسية فى أعقاب ثورة يناير 2011، ثم كانت حادثة الطائرة الروسية عام 2015، ومؤخرا، جائحة كورونا، التى أجبرت بلدان عدة على الإغلاق الكلى والجزئى بما أسهم فى تراجع أداء قطاع السياحة.

لم يتوقف تهاوى الأداء على قطاع السياحة، بل شهدت معدلات نمو إيرادات قناة السويس تباطؤا غير متوقع فى الأداء، حيث عطلت الأزمات الاقتصادية قناة السويس عن تحقيق ما كان متوقعا من طفرة فى الأداء فى أعقاب افتتاح قناة السويس الجديدة، واقتصر النمو خلال الفترة على نحو 12.5% فقط، بما يساوى 1.3% نمو على أساس سنوى خلال العشر سنوات الأخيرة، على خلفية التراجع الحاد فى معدلات نمو التجارة الدولية منذ عام 2015، الذى شهد افتتاح القناة الجديدة.

الإخفاق فى الهدف

لحق ذات الأثر بأداء قطاع الصادرات، الذى أخفق فى تحقيق المأمول، خصوصا أن التوقعات كانت تذهب إلى حدوث طفرة فى هذا القطاع بعد قرار الحكومة بتحرير سعر الدولار، الذى انتظر معه الخبراء زيادة تنافسية المنتج المصرى فى الخارج، إلا أن الرياح لم تأت بما تشتهى السفن، وذلك مع الاضطرابات، التى أمسكت بتلابيب التجارة الدولة، ما أسهم فى محدودية زيادة إيرادات قطاع الصادرات، بحيث زادت من 27 مليار دولار فى العام 2010 / 2011 إلى نحو 32.34 مليار دولار بزيادة قدرها 20% فقط.

عوض تباطؤ أداء مصادر النقد الأجنبى الرئيسية تعافى تحويلات العاملين بالخارج بمعدل نمو متوسط خلال الفترة يفوق 6%، التى بلغت خلال السنوات العشر الماضية إلى نحو 236 مليار دولار، بحسب أرقام البنك المركزي، لتمثل بذلك أكثر من 11 مرة إجمالى قيمة قروض صندوق النقد الدولى (21 مليار دولار منذ عام 2016 حتى نهاية 2021)، وتفوق إجمالى التحويلات مرة ونصف إجمالى الدين الخارجي، الذى يقدر بنحو 145 مليار دولار.

مصدرة للمهاجرين

كانت مصر طوال تاريخها، وفقا لـ «د. أيمن زهري، رئيس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة»، دولة مستقبلة للهجرة، وتحولت فى منتصف سبعينيات القرن الماضي؛ لتصبح دولة مصدرة للمهاجرين، بالتزامن مع نهضة بلدان الخليج وليبيا الاقتصادية، فى أعقاب ارتفاع أسعار البترول بعد حرب أكتوبر 1973، حيث توجهت تلك الدول إلى إقامة نهضة اقتصادية استعانت خلالها بالعمالة القادمة من مصر.

حتى الآن لم تستفد تجربة التنمية المصرية، بحسب ما جاء فى دراسة د. زهري، التى جاءت بعنوان «استراتيجيات وسياسات توجيه تحويلات العاملين بالخارج نحو تمويل التنمية: حالة مصر»، نظرا لعدم وجود مبادرات حقيقية لجذب تحويلات المصريين بالخارج للبنوك، وتعامل بعض البنوك مع التحويلات، وكأنها تحصيل حاصل، ورغم عدم وجود قيود على التحويلات، إلا أنه يندر وجود منتجات بنكية لاجتذاب تلك التحويلات.

يعود عزوف البنوك عن استحداث منتجات للمهاجرين إلى فشل محاولاتهم السابقة، مع نزوع المصريين للتعامل مع البنوك وكأنها شركات تحويل الأموال، وارتباط مفهوم الاستثمار عادة بكبار المستثمرين، وإن كان استحداث إدارة جديدة لجذب استثمارات المصريين بالخارج داخل الهيئة العامة للاستثمار خطوة جيدة، لكن غالبية المصريين العاملين بالخارج، ليسوا مستثمرين بالمعنى الاقتصادى المجرد بل أصحاب مدخرات، التى يذهب جزء كبير منها للإنفاق الاستهلاكية مع غياب فرص الاستثمار الحقيقي.

فرص استثمارية

جذب تحويلات العاملين بالخارج إلى الاستثمار مرهون، فى رأى د. زهري، بقيام الهيئة العامة للاستثمار على تسويق فرص استثمارية لاجتذاب تلك التحويلات، وتوفير نماذج ومشروعات استرشادية لضخ تلك الأموال، لجذب تحويلات المستثمرين وأصحاب المدخرات الصغيرة فى آن واحد إلى الاستثمار فى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، لتوظيف جزء من هذه المدخرات فى الأنشطة الإنتاجية من خلال سياسات وأفكار مختلفة.

واستحداث أو خلق هيئة تنسيقية، بحسب دراسة د. زهري، أمر ضرورى حتى تضطلع بتنسيق الجهود الخاصة بتوجيه التحويلات نحو التنمية، بالإضافة إلى العمل على دعم دور القطاع المصرفى فى جذب تحويلات المصريين فى الخارج بتوسيع الشبكات البنكية وتخفيض تكلفة التحويل وتقليل وقت التحويل، والتوسع فى استحداث منتجات بنكية خاصة بالمغتربين، وتطوير ما هو قائم منها بمزايا تفضيلية.

طرح مشروعات جاهزة للاكتتاب فيها، أحد توصيات دراسة د.زهري، وذلك من خلال الشراكة مع منظمات المجتمع المدني، على أن تستهدف صغار المستثمرين وتحفيز التحويلات الجماعية الموجهة للمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، والعمل على إشراك الجاليات المصرية فى المشروعات الكبرى، التى تنفذها الحكومة من خلال إعداد أوعية استثمارية خاصة بالمصريين بالخارج بالجنيه المصرى والعملات الصعبة وتيسيرها للمصريين بالخارج.

زيادة التحويلات

ترجع الزيادة المطردة فى تحويلات العاملين بالخارج خلال العقد الأخير، بحسب د. سالى فريد، رئيس قسم السياسة و الاقتصاد بكلية الدراسات الإفريقية العليا جامعة القاهرة، إلى أن الاضطرابات التى شهدها الشارع المصرى فى أعقاب ثورة 25 يناير 2011 دفعت عددا كبيرا من الشباب إلى السفر إلى الخارج بحثا عن لقمة العيش، واضطر العاملون بالخارج إلى زيادة تحويلاتهم لذويهم فى مصر؛ لإعانتهم على مواجهة أعباء المعيشة، التى شهدت زيادات ملحوظة خلال الفترة.

وتاريخياً، ساهمت تحويلات المصريين منذ بداية عصر الهجرة الكثيفة للمصريين من أجل العمل، خاصة فى بلدان الخليج، فى سبعينيات القرن الماضى، بدور مهم فى دعم ميزان المدفوعات أو على مستوى الاقتصاد الجزئى من خلال توفير الموارد المالية اللازمة للإنفاق على احتياجات أسر المهاجرين، والإنفاق على خدمات الصحة والتعليم واحتياجات أسر المهاجرين والإنفاق على خدمات الصحة والتعليم وتحسين ظروف السكن والاستثمار.

ونجحت السياسة النقدية للحكومة خلال الفترة الماضية، فى رأى د. سالى فريد، فى تشجيع المصريين بالخارج على زيادة تحويلاتهم إلى الداخل المصرى للإنفاق الاستثمارى، وذلك فى أعقاب قرار تحرير سعر صرف الجنيه، الذى أسهم فى زيادة قيمة الدولار فى مواجهة العملة الوطنية، بما يعزز مكاسب التحويلات الدولارية فى الداخل المصرى.

فترات تباطؤ

تلعب التحويلات المالية، بحسب د. عشرى محمد على، مدرس الاقتصاد بالمعهد العالى للدراسات النوعية بالجيزة، آثار اقتصادية إيجابية، لما تتسم به من استقرار نسبى وعملها فى اتجاه عكس دورة الأعمال، حيث ترتفع فترات تباطؤ الاقتصاد، ما يحد من تقلبات نمو الناتج المحلى ويحسن الجدارة الائتمانية للدولة المستقبلة، وتعزيز قدرتها على الاقتراض من الأسواق المالية الدولية، بفضل تحسن نسب الدين إلى الصادرات، التى تمثل أحد أهم المؤشرات المستخدمة فى قياس عبء المديونية.

وتمكنت مصر، بحسب أرقام البنك المركزي، من جمع نحو 648.6 مليار دولار خلال الفترة (2010: 2020) عبر 5 مصادر، جاء فى مقدمتها، قطاع الصادرات الذى توفير نحو 248.4 مليار دولار تمثل 38.3%، ثم جاءت تحويلات المصريين العاملين فى الخارج المقدرة بنحو 205.4 مليار دولار تمثل 31.66%، وساهم قطاع السياحة بنحو 82.8 مليار دولار تمثل 12.76%، فيما وفر الاستثمار الأجنبى المباشر نحو 58.8 مليار دولار تمثل 9%، أما عائدات قناة السويس بلغت نحو 53.27 مليار دولار تمثل 8.2%.

أضف تعليق