في الأول من أبريل عام 2009 كُلفت بالسفر إلى العريش برفقة أستاذي محمد خلف الله، رحمه الله، رئيس القسم العسكري بمجلة أكتوبر لعمل ملف عن أعياد تحرير سيناء ، وكان الأستاذ محمد خلف الله قد حدد لنا لقاءً مع محافظ شمال سيناء اللواء محمد عبد الفضيل شوشة، والذي تولى مسئولية محافظة شمال سيناء فى أبريل 2008، وكنت أعرفه عندما كان قائدًا لقوات حرس الحدود ، كعادتي فى مثل تلك الزيارات المهمة خاصة التي تهفو إليها نفسي وأتوق إلى تدوين تفاصيل كل اللقاءات والحوارات والجلسات المسائية التي تحلو على أرض سيناء وحكايات النصر وتفاصيل الملحمة المسطرة على أغلى بقاع الأرض وأحاديث الفخر والتضحية الإيثار، أحرص على كتابة تفاصيل تروى فى نوتة خاصة، فالأحاديث الجانبية مع الأبطال تكشف الكثير من حكايات النصر.
كان مخطط الزيارة أن نلتقي محافظ شمال سيناء وأحد أبناء منظمة سيناء العربية كان الشيخ عبد الله جهامة.
اتفقت مع الأستاذ خلف الله أن نلتقي فى موقف السيارات لمدينة العريش خاصة أنني كنت أسكن بحي المرج على مقربة من موقف الأقاليم الخاص بمدن سيناء وبعض مدن القناة.
وخلال استعدادي للسفر حرصت على مراجعة أدواتي التي سأحملها فى حقيبتي وأجريت عددًا من الاتصالات مع بعض الأصدقاء بمدينة العريش و رفح ، فقد خططت أن تكون الزيارة بها العديد من اللقاءات أدون تفاصيل جديدة من حكايات أبناء سيناء الأبطال، خاصة أنني قبل تلك الرحلة بشهرين كنت قد التقيت اللواء فؤاد حسين ودار بيننا حديث طويل عن بطولات أبناء سيناء استمر لأكثر من 4 ساعات روى لي تفاصيل بطولات سطرها أبناء سيناء عقب الخامس من يونيو 1967، فقد استطاعوا أن يحولوا سيناء لكتاب مفتوح أمام القوات المسلحة المصرية، وتحوّل أبناء سيناء إلى رادارات بشرية ترصد كل تفاصيل تحركات ومواقع العدو بسيناء، وكنت قد التقيت اللواء فؤاد حسين الملقّب بصائد الجواسيس لأول مرة عام 2002 عندما كنت مديرًا لمكتب إحدى الصحف العربية بالقاهرة، ومنذ ذلك التاريخ وأنا أحرص على التواصل معه فى توقيتات مختلفة خلال العام لأتعرف عن رؤيته حول تطورات الأوضاع بالمنطقة وتحليلاته المهمة لأحداث الشرق الأوسط، وفى كل مرة أتركه وأنا أتمنى ألا ينتهي اللقاء.
هذه المرة تحدثت معه حول رغبتي فى أن يكون تناولي لموضوع أعياد تحرير سيناء مختلفًا عن الأعوام السابقة، الأمر الذي جعل اللقاء يمتد لأربع ساعات، يروي لي تفاصيل الدور البطولي لأبناء سيناء عقب هزيمة 67 للوصول للنصر فى عام 1973.
لمَ لا وهو أحد مؤسسي «منظمة سيناء العربية» التي تأسست عقب الاحتلال الإسرائيلي لـ سيناء 67 وأنشئت بتكليف من اللواء محمد صادق، مدير إدارة المخابرات الحربية فى ذلك الوقت من أهالي سيناء، يشاركهم متطوعون مصريون من 12 محافظة ومعهم 13 ضابط مخابرات وكان واحدًا منهم وكان عددهم 757 فردًا تقريبًا، وكان الهدف من إنشائها القيام ببعض العمليات الفدائية ضد المحتل الإسرائيلي.
فى هذا اللقاء تحدث معى عن اثنين من الأبطال الشيخ حسن خلف من قبيلة السواركة وشلاش خالد عرابي هذا البطل الذي أطلق عليه الحاكم العسكري الإسرائيلي عقب القبض عليه بأنه كان يقود أخطر شبكات الجاسوسية ضد إسرائيل ، والذي نجح فى تنفيذ 64 عملية، وكان قد توفى فى عام 2005 تاركًا خلفه تاريخًا طويلاً من البطولة والشرف والفداء من أجل الوطن.
أما الشيخ حسن خلف فأوصاني اللواء فؤاد حسين بضرورة مقابلته والجلوس معه حال سفري إلى العريش ، فهو والبطل شلاش خالد عرابي من أبطال منظمة سيناء العربية، وكانت إسرائيل ترفض تبديلهما فى عمليات تبادل الأسرى عن طريق الصليب الأحمر عام 1974.
ورغم أن إسرائيل كانت حريصة على تبادل الأسرى للحصول على الضباط والجنود الذين أسروا خلال حرب أكتوبر 1973، إلا أنهم رفضوا تسليم الأبطال من أبناء سيناء الذين كانوا يعملون مع المخابرات الحربية المصرية بزعم أنهم إرهابيون، ولا ينطبق عليهم بنود اتفاقية جينيف لأسرى الحرب، لأنهم ليسوا من العسكريين المقاتلين، بل هم من المدنيين من أعضاء منظمة اعتبرتها إسرائيل منظمة إرهابية.
لكن الأبطال المصريين من المفاوضين اعتبروا أن قصاصي الأثر اليهود العاملين مع جيش الاحتلال الإسرائيلي بنفس المعاملة، خاصة أن معظم هؤلاء من يهود اليمن والعراق، وقررت مصر عدم إعادتهم مع أسرى الحرب؛ وذلك للضغط على إسرائيل لإعادة أبناء منظمة سيناء العربية الذين تمت محاكمتهم من جانب الجيش الإسرائيلي .
ودارت مفاوضات أخرى طلبت فيها إسرائيل تسليم ثلاثة من جواسيسها قبضت عليهم المخابرات المصرية وصدرت ضدهم أحكام بالأشغال الشاقة مقابل تسليم عدد مماثل من المصريين المقبوض عليهم فى تهم مشابهة، ورفضت مصر، وأخذت إسرائيل تضاعف أعداد المصريين أمام إصرار المفاوضين المصريين على تسليم كل المعتقلين المصريين فى سجون إسرائيل والموقوفين إداريًا أو الصادر ضدهم أحكام بالسجن، وتم الاتفاق على تسليم مصر للجاسوس الإسرائيلي «موسى ليفي» و«باروخ مزراحي» مقابل قائمة قدمتها الحكومة المصرية كان على رأسها البطلان شلاش خالد عرابي، وحسن خلف وأكثر من مائة آخرين من أبناء سيناء من أعضاء منظمة سيناء العربية، وذلك فى مارس 1974.
روى لي اللواء فؤاد حسين الدور البطولي الذي قام به البطل «شلاش خالد عرابي» من عمليات بدءًا من أول عملية تطوعية مع المخابرات الحربية عقب هزيمة يونيو 67 مباشرة، فقد حضر من الصحراء الغربية حيث كان يعمل بأعمال البناء وعندما علم بما حدث فى سيناء جاء للاطمئنان على أسرته وأهله، وقد وصل إلى بورسعيد يوم 9 يونيو وكانت الأعصاب مشدودة بعد إعلان الرئيس جمال عبد الناصر التنحي.
ثم توجهوا إلى مكتب السواحل لإرشادهم للعودة إلى سيناء، وكانت أول مهمة له كلف بها هو وأربعة من زملائه فى طريق عودته ل سيناء بمساعدة أفراد القوات المسلحة الراغبين فى العودة والعمل معهم كدليل.
تكررت العملية بنقل الأفراد عن طريق البحر لكن القوات الإسرائيلية أحكمت السيطرة على الطريق البحري فتم تكليفه باصطحاب أكثر من 100 شخص تقريبًا سيرًا، مهمة صعب لكن الطريق غير معروف، واستعان شلاش بأحد أصدقائه من قبيلة الأخارسة والذي وصف له الطريق وتفاصيله فى أكبر مهمة وطابور ليلي لم يحدث من قبل، حتى وصل بهم فجر اليوم التالي لـ بور فؤاد وتم نقل المجموعة إلى بورسعيد عن طريق أحد اللانشات.
عاد البطل شلاش خالد إلى سيناء مرة أخرى وهو يحمل رسالة الشيخ عبد العزيز أبو مرزوق، شيخ قبيلة البياضية، حيث سلمه رسالة من قائد مكتب المخابرات الحربية ببورسعيد حول خطة إخلاء أفراد القوات المسلحة وتعليمات أخرى تفصيلية لتدمير معدات القوات المسلحة والأسلحة المتروكة والمبعثرة فى سيناء حتى لا يستفيد منها العدو، وكان للشيخ أبو مرزوق دور تاريخي فى تنفيذ هذه المهمة.
لقد كانت قبائل شمال سيناء بالكامل تتعاون مع المخابرات الحربية المصرية بوازع من ضمائرهم الوطنية، ولم تضن أي من قبائلها بجهودها فى سبيل تحرير الأرض وهي قبائل (السواركة، البياضية، الأخارسة، الرميلات، وبلي، العقايلة، الدواغرة، السماعنة، العيايدة، المياعي، الرياشات، والعكور) وقبائل وسط سيناء (الترابين، التياهة، الاحيوات، والحويطات).
وقبائل جنوب سيناء أمثال (العليقات، المزبنة، الصوالحة، القرارشة، الجبالية، الحماضة، بني واصل، البدارة، والجراجرة) بالإضافة لقبائل العريش مثل الفواخرية، أولاد سليمان، والعائلات الذين قاموا بدور وطني من تلقاء أنفسهم أو بتوجيه من المخابرات المصرية لمقاومة المحتل.
تعرّفت من اللواء فؤاد حسين على تفاصيل لعمليات كان لها دور كبير فى ذرع الرعب داخل نفوس جنود جيش الاحتلال فى سيناء، ومعلومات كان لها دور مهم فى تنفيذ قواتنا لعمليات خلف خطوط العدو، قام بها أبناء سيناء.
وصلت عصر يوم 1 أبريل 2009 إلى العريش وذهبت إلى أحد الفنادق ذي النجمتين فى شارع مسجد المالح والذي أدى فيه الرئيس السادات الصلاة عام 1979 خلال زيارته للعريش ورفع العلم المصري عليها فى 26 مايو، تم رفع العلم بمنطقة تسمى أرض «الكارنتيا» ب العريش وأعلن العريش عاصمة لمحافظة شمال سيناء.
بدأت أتواصل مع الأصدقاء لأبلغهم بوصولي وأبدأ اللقاءات مع الأبطال من أبناء قبال سيناء لأستمع لأحاديث الذكريات حول مرحلة من أهم مراحل حياتهم، ودورهم البطولي فى تحرير الأرض.
بعد ذلك نزلت إلى الشارع الذي كانت لا تزال آثار رصاصات العدوان الإسرائيلي شاهدة على صمود العريش فى وجه الاحتلال رغم مرور 42 عامًا عليها، بدأت أدون بعض المشاهد التي كانت تروي تفاصيل البطولة، وكيف أن الجيش المصري ظُلم أبناؤه بما حدث فى 67، فقد استطاع الأبطال بمعاونة أبناء العريش التصدي للعدوان ولم يفلح الجيش الإسرائيلي فى احتلال سيناء إلا بعد إعلان الرئيس عبد الناصر التنحي، كان تصدي العريش دليلاً على أن الجيش لن يفرط فى تراب الوطن وسيحرر الأرض يومًا ما، ولن يستمر الاحتلال طويلاً.
فى المساء تواصلت مع الشيخ حسن خلف أحد أبطال منظمة سيناء العربية بعد أن راجعت صفحات النوتة الخاصة بي والمدون بها العديد من التساؤلات التي سأوجهها للشيخ المجاهد، الذي شارك فى تدمير اللواء 190 مدرع الإسرائيلي.
التقيته فى السابعة مساءً استقبلني بترحابٍ شديدٍ فهو رجل دمث الخلق كريم، يستقبلك بوجه بشوش تشعر عند لقائه بأنك تعرفه من قبل.
فى بداية حديثي معه قلت له: اللواء فؤاد يسلم على حضرتك.
ردت ملامح وجهه وعينيه قبل أن ينطق لسانه، «الله يسلمك ويسلمه.. منتظرينه فى احتفال مؤتمر الحسنة السنة دي ويا رب دايمًا معنا».
جلست فى المجلس المعد لاستقبال الضيوف وقبل أن أبدأ بالسؤال قال لي اتفضل أنا معاك اللواء فؤاد كلمني أنك هتكون فى العريش اليوم.
رددت عليه: أريد أن أتعرف على دور أبناء سيناء فى تحرير الأرض، خاصة الأبطال من مجاهدي سيناء من أعضاء منظمة سيناء العربية.
صمت شيخ المجاهدين لحظات قبل أن يتكلم وكان شخصًا مفوهًا يمتلك ناصية اللغة، ليقول: سيناء بأبنائها كانت لا تتوقف لحظة عن المقاومة، وهناك تفاصيل كثيرة لم يفصح عنها بعد لكن القوات المسلحة تمتلك تفاصيل ما حدث على أرض سيناء الطاهرة والدور الذي قام به أبناء سيناء.
يكفي أن وزير الدفاع الفريق أول محمد فوزي عقب هزيمة يونيو 67 قال لنا فى لقاء معه: ليست لدينا أقمار صناعية ترصد ما يحدث فى سيناء، لكن كانت لدينا العيون الصادقة لأبنائنا فى سيناء، فتحولنا إلى رادارات تنقل كل شيء على الأرض ونقوم بعمليات نكلف بها من قيادة الجيش المصري ضد الجيش الإسرائيلي.
لقد كانت مصر كلها تحارب، وكان أبناء سيناء فى المقدمة جنبًا إلى جنب مع الأبطال من رجال القوات المسلحة.
فالمعركة كانت طويلة ولم تنتهِ عقب المرحلة الكبرى منها فى 1973 لكن استمرت حتى تسليم آخر جزء من تراب الوطن، ولم تكن معركة طابا هي المعركة القانونية أو التفاوضية الوحيدة التي انتصرت فيها مصر، بل إن كل المعارك التي بدأت منذ اللحظة الأولى باتخاذ قرار تحرير الأرض فى يونيو 1967 وحتى أبريل 1982 حاول العدو كثيرًا أن ينقلب على مسار السلام، واستطاع الرئيس السادات وفريق التفاوض أن يرفع علم مصر على المرحلة الثانية من العريش إلى رأس محمد، فى 1979 بعد أن حاولت إسرائيل أن توقف تلك المرحلة عند بئر العبد وقد كان لأبناء القبائل دور مهم فى مفاوضات استلام المناطق الحدودية، كما كان لهم دور فى العمليات العسكرية خلف خطوط العدو وعمليات الاستطلاع.
أواصل فى العدد القادم عرض تفاصيل ما دار بيني وبين شيخ المجاهدين الشيخ حسن خلف، رحمه الله، وتفاصيل لقاءات مع عدد من أبناء سيناء الأبطال الذين كانوا فى مواجهة مع المحتل، وكيف حاولت إسرائيل تغيير ملامح خط الحدود بين رفح المصرية الفلسطينية؟!