فجأة وجدت الدول الغربية أنها أمام زلزال نسف أطماعها وأحلامها في الشرق الأوسط بشكل عام ومصر بشكل خاص، هذا الزلزال يتمثل في عدد من الضباط المصريين الوطنيين الشباب يقودون حركة للتحرر يدعمها الشعب ويتصدرها اللواء محمد نجيب لتكتمل ملحمة ثورة 23 يوليو 1952.
كانت الدول الغربية، وفي مقدمتها أمريكا وفرنسا وإنجلترا يشعرون بأن مصر قد أصبحت في قبضة يدهم يتحكمون في مصيرها كيفما شاءوا خاصة بعد أن زرعوا فتنتهم الكبرى وحليفتهم، تلك الدولة الصهيونية، في قلب الجسد العربي على أرض فلسطين المحتلة.
لكن جاءت الرياح الوطنية بما لا تشتهي سفن الاحتلال والصهيونية وقامت ثورة 23 يوليو وانتقل الحكم إلى الشعب المصري ويمثله مجلس قيادة الثورة الذي يضم عددا من الضباط الشرفاء الوطنيين، وخلفهم الجيش المصري كله فى صحوة لم يتوقعها الغرب ولذلك بدأت محاولات الانتقام من مصر ومحاولة تركيعها بكل السبل سواء بالضغوط السياسية أو العمليات العسكرية أو المخابراتية، ولكن مصر لم ولن تركع أبدًا وستظل تقاوم تلك المؤامرات، التي تتزعمها المخابرات الغربية والمستمرة حتى يومنا هذا.
بل إن مصر التي تنسمت عبير الحرية أبت أن تتحرر بمفردها فقادت ودعمت العديد من حركات التحرر العربية والإفريقية، وتحملت فى سبيل ذلك الكثير من أمنها واستقرارها بل ودماء أبنائها الشرفاء ولكنها رسالة مصر السامية ودورها الريادي المحوري تجاه أشقائها العرب والأفارقة.
الإخوان والحرب السرية
عندما تيقنت بريطانيا، والتي كانت فى ذلك الوقت أحد قطبي العالم مع فرنسا، أنها سترحل إن عاجلًا أو آجلا عن الأراضي المصرية وأن الشعب المصري يلتف حول الجيش الذي قام بثورة يوليو، بحثت عن فصيل سياسي أو ديني يمكن أن يكون سلاحها السري وتدعمه لضرب تلك الثورة وتشويه صورتها.
ولم تجد بريطانيا أفضل من جماعة الإخوان التي تلونت سريعا من تأييد مطلق للملك وتسميته بـ «أمير المؤمنين»، إلى عدو صريح له وتلقيبه بـ «ألعوبة بريطانيا والغرب»!!.. فتواصلت مع مرشد الجماعة والذي أبدى ترحيبه بالدعم البريطاني على أمل أن يتحقق حلم التنظيم بالقفز على السلطة فى مصر قلب العرب و الشرق الأوسط النابض.
وعن ذلك التحالف كشف موقع BBC البريطاني، عن وثائق سرية تم الكشف عنها فى 2019، أكدت أن بريطانيا استغلت شعبية وتأثير جماعة الإخوان المسلمين واستخدمتها فى شن حروب نفسية ودعائية سرية على أعدائها، من أمثال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والزعيمين الإندونيسي «سوكارنو»، والصيني «ماو تسي دونغ».
وقامت الجماعة بمهاجمة عبد الناصر والجيش المصري بشكل سري وعبر قواعد لا تنتمي تنظيميا لها، فى نفس الوقت الذي حاول فيه الإخوان المشاركة فى تشكيل حكومات الثورة المتعاقبة!!
واشتد الهجوم على ناصر والجيش، وفقا للوثائق البريطانية والبرقيات المتبادلة بين المخابرات البريطانية ومكتب الإرشاد الإخواني، فى فترات الصراعات العسكرية المصرية مع الغرب كما حدث من الترويج بأن مصر ستنهار عقب العدوان الثلاثي فى 56 وطالبوا بالخروج على حكم الرئيس عبد الناصر والزعم بأن الشعب لو تخلص منه فستنسحب الدول الثلاث بل وستكافئ الشعب المصري!!.
كما تم التشكيك فى إيمان الرئيس عبد الناصر والزعم بأن نكسة يونيو 67 سببها الابتعاد عن شرع الله وأن الدولة صارت كافرة ويجب أن يتوب الشعب ويعود للإيمان بالتخلص من الحكومة الكافرة والانضمام لحكومة الخلاص الإخوانية المسلمة!!
ومن الثابت تاريخيا أن رئيس الوزراء البريطاني دوجلاس هوم قد أمر فى يوليو 1964 وزير خارجيته راب باتلر بالانتقام من عبد الناصر، بعد أزمة السويس وتدخل مصر العسكري فى اليمن بما يهدد مصالح بريطانيا النفطية بشكل خاص، عن طريق «جعل الحياة جحيما بالنسبة له.. باستخدام المال والسلاح». وطُلب من الوزير العمل على أن يكون التحرك سريا وأن «يُنكر ذلك إن أمكن»، فى حالة انكشافه.
مؤامرة سوزانا
لم تكن بريطانيا فقط هي التي تشن حرب سرية وتتآمر على مصر وثورتها الوليدة، بل كانت هناك مؤامرات أخرى تحاك فى الغرف المغلقة، فكل دولة تبحث عن محاولة لإحياء مصالحها ومكاسبها التي أفسدتها ثورة يوليو.
فبعد أن اتفقت مصر وإنجلترا على كافة بنود الجلاء الإنجليزي عن الأراضي المصرية، اشتعل الغضب الصهيوني فوضعت المخابرات العسكرية فى الجيش الإسرائيلي خطة للتخريب والتجسس فى مصر، تقوم خلالها باعتداءات على دور السينما والمؤسسات العامة، وبعض المؤسسات الأمريكية والبريطانية، على أمل أن تؤدي هذه الأعمال إلى توتر العلاقات المصرية الأمريكية (ذلك القطب الدولي الجديد الذي بدأ يظهر فى الأفق)، وأن يؤدى ذلك إلى عدول بريطانيا عن إجلاء قواتها من السويس.
الخطة وضعها وزير الدفاع الإسرائيلى – فى فترة الخمسينات – بنحاس لافون، بنفسه، تحت إشراف رئيس الحكومة الإسرائيلية الجنرال بن جوريون، وتم تكليف ضابط المخابرات الإسرائيلي إفرى إلعاد بهذه المهمة، وأطلقوا عليه «عملية سوزانا» فقام بتجنيد عدد من الشباب اليهودي المقيمين بمصر، والمنتمين إلى الوكالة الصهيونية والتي كانت تعمل فى الخفاء علي نقل اليهود لإسرائيل الجديدة، ثم انضم إليهم الضابط الإسرائيلي ماكس بنيت والذي كان يتجسس على مصر وقتها.
فى 2 يوليو 1954 كانت أولى العمليات الإرهابية للشبكة نجحوا فيها بتلغيم مكتب البريد الأمريكي فى الإسكندرية، مما أسفر عن حريق المكتب وسقوط عدد من الضحايا، وفى 14 يوليو نفذت الشبكة عمليتها الثانية.
وفى عيد ثورة 23 يوليو عام 1954 كان من المفترض وضع متفجرات فى محطة القطارات ومسرح ريفولي بالقاهرة وداري السينما (مترو وريو) فى الإسكندرية، غير أن القدر أراد أن تظل لعنة الثورة تطاردهم فاشتعلت إحدى المتفجرات فى جيب العميل (فليب ناتاسون) المكلف بوضع المتفجرات بدار سينما ريو فأنقذه المارة ولسوء حظه تواجد رجل شرطة فى المكان تشكك فى تصرفاته فاصطحبه إلى المستشفى بدعوى إسعافه وبتفتيش الشاب عثر معه على قنبلة أخرى وتم اعتقاله، وبناء على اعترافاته تم كشف الشبكة والقبض على عدد منهم ومحاكمتهم، كما أدى القبض على الشبكة إلى استقالة بن جوريون من رئاسة وزراء إسرائيل وبنحاس من وزارة الدفاع.
أطول لا فى التاريخ!
بالتأكيد جذبك تصميم برج القاهرة تلك التحفة المعمارية الشامخة المطلة على النيل، فهل تعلم أن ذلك البناء الساحر شاهد على إحدى مؤامرات الغرب على مصر وثورة يوليو وأنه أحد أعنف الصفعات المصرية على وجه الغرب والإدارة الأمريكية؟
بدأت القصة بدعوة تلقاها حسن التهامي مستشار رئيس الجمهورية من مايلز كوبلن كبير ضباط المخابرات الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط، لمقابلته فى فندق سميراميس لمناقشة موضوع على قدر كبير من الأهمية.
توجس التهامي من الدعوة بعض الشيء، وفقا لما يرويه اللواء عادل شاهين، وكيل جهاز المخابرات العامة الأسبق، فى كتابه الذي يحمل عنوان «برج القاهرة أول مهمة قومية للمخابرات العامة المصرية»، استقبل كوبلن، التهامي، وأخبره بأنه «من أجل تدعيم علاقة الولايات المتحدة مع الدول الصديقة فى المنطقة، وعلى رأسها مصر، قرر الكونجرس تقديم دعم مادى لرؤساء هذه الدول للتصرف فيه وفق ما يتراءى لهم، ولم تستحسن الحكومة الأمريكية أن يتم هذا من خلال القنوات الدبلوماسية. وكلفت بتولى تقديم هذا الدعم عن طريقكم للرئيس عبد الناصر رمزا للتعاون والصداقة بين مصر والولايات المتحدة». وأضاف أن «أمريكا ستكون على أتم الاستعداد للاستجابة إلى أى طلبات أو مساعدات يطلبها الرئيس عبد الناصر»، وقدم له حقيبة متوسطة الحجم وبها ستة ملايين جنيه مصري ليسلمها إلى جمال عبد الناصر.
وعندما أبلغ التهامي الرئيس عبد الناصر بما دار بينه وبين كوبلن، فهم الهدف الخفي من تلك المنحة ولماذا هي سرية، فالأمريكان يرغبون فى التأثير على الموقف المصري المساعد للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي، بالكف عن مساعدتها ومساندة ثوارها، ورغم أهمية هذا المبلغ الضخم للجمهورية الوليدة، فإن ناصر أعلن رفضه لهذه الرشوة، وأن الإرادة المصرية ليست معروضة للبيع.
وأراد أن يلقن الأمريكان درسا، فأمر ببناء برج القاهرة، وتم تصميمه على شكل زهرة اللوتس رمز الحضارة المصرية القديمة، وفى ذلك رسالة إلى الحضارة الأمريكية الوليدة.
ولم يتوقف دور البرج خلال فترة الستينات عند كونه معلما سياحيا بارزا، إنما تجاوز ذلك عندما تحول إلى مركز رئيسي لبث الإذاعات السرية والعلنية، تلك الإذاعات التي انطلقت من القاهرة لتغطي قارتي إفريقيا وآسيا، داعمة حركات التحرر الوطني، ووصفه المؤرخون بأنه «أطول لا فى التاريخ» وأطلق الأمريكان على برج القاهرة «شوكة ناصر»، أما المصريون فأطلقوا عليه «وقف روزفلت» نسبة إلى الرئيس الأمريكي وقتها.
ووفقا لتقرير عن هيئة الإذاعة البريطانية: «احتلت مصر فى العام 1960 المرتبة السادسة فى العالم من حيث عدد ساعات الإرسال متعدد اللغات، والتي بلغت حينذاك 301 ساعة، ارتفعت خلال أعوام قليلة إلى 560 ساعة، كان لمحطات البث فوق برج القاهرة نصيب الأسد منها، وقد كانت هذه الإذاعات الثورية المصرية الموجهة للأشقاء العرب والأفارقة أحد الأسباب غير المعلنة للعدوان الثلاثي على مصر فى العام 1956 وحرب يونيو 1967».