فى الإعادة كثير من الاستفادة .. فالتاريخ غالبًا يعيد نفسه .. وعلى هذه الصفحات نعيد نشر موضوعات من أعداد سابقة لـ مجلة أكتوبر قد تتشابه الأحداث مع واقعنا الحالى، وقد تختلف عنه ولكنها تظل جزءًا من ذاكرة الشعب المصرى فى فترة من تاريخ مصر
إذا كنت يا عزيزى القارئ مدخنا، وتمسك الآن سيجارة بين أصابعك، فإننى أستأذنك أن تتركها الآن جانبا، ريثما نقرأ معا هذه السطور ولك بعد هذا أن تعود إليها أو لا تعود.
لقد جاء فى أحد التقارير الحديثة من إنجلترا أن هناك علاقة وثيقة جدا بين التدخين وبين المرض، وجاء فى هذه الدراسة أن ضحايا التدخين يزيدون خمس مرات على ضحايا حوادث الطريق، ويزيدون أكثر من ثمانى مرات على ضحايا الانتحار.
ويكفى أن تعلم أن مرضى التدخين، أى الذين يصابون بالمرض بسبب التدخين يشغلون يوميا ما يزيد على 8500 سرير من أسرة المستشفيات هناك، كما أن أكثر من خمسين ألف شخص يموتون كل عام فى سن مبكرة، معظمهم من سرطان الرئة وأمراض القلب، فى حين أن التدخين وحده مسئول عن وفاة 90% من حالات سرطان الرئة.
لقد وجدوا أن تدخين 15 سيجارة يوميا يختصر من عمر الإنسان خمس سنوات أو يزيد وبطريقة أخرى فإن الإنسان يفقد من عمره الغالى خمس عشرة دقيقة، كلما دخن سيجارة واحدة، ومعنى هذا أنك وأنت تحرق سيجارتك، إنما تحرق – فى الوقت نفسه – جزءا من عمرك الثمين.
ولقد جاء فى هذه الدراسة أن التدخين يرفع كولستيرول الدم، كما يرفع نسبة الدهون فيه ويزيد من التصاق الصفائح وهذه المعاول كلها تهدم صحة الشرايين وتساعد على تصلبها وتؤدى فى النهاية إلى جلطة القلوب، ذلك العدو الأثيم وفى النساء الحاملات فإن التدخين يؤدى إلى موت الأجنة فى بطون الأمهات، وإذا أفلتوا من الموت فى الأرحام، فإنهم يموتون بعد الولادة بقليل.
التدخين السلبى
كذلك فإن الأطفال الذين يولدون من أمهات مدخنات يكونون أقل وزنا عمن سواهم، وكلما زاد عدد السجاير زاد الخطر الذى يتهدد فلذات الأكباد.
ولقد أجريت دراسة طريفة على الأولاد الذين يولدون لأمهات مدخنات، فوجد أن هؤلاء الأولاد فى سن السابعة يكونون – بالنسبة لأقرانهم – أقصر بنصف بوصة وأكثر تخلفا فى الدراسة وأقل تكيفا مع البيئة التى فيها يعيشون.
والنتيجة المخيفة التى توصل إليها العلماء هى أن هناك رابطة مؤكدة بين التدخين وبين مرضى السرطان، وكلما زاد عدد السجاير التى يتعطاها المرء، زاد احتمال الإصابة بهذا الداء اللعين.
لقد ظل هذا الموضوع مادة سخية للجل والنقاش منذ عشرات السنين ولكن الدراسات كلها قد أجمعت الآن وبدون ريب على أن التدخين أمر لا يمكن تجاهله كسبب من أسباب السرطان.
إن التدخين يقف اليوم فى قفص الاتهام، وكل الأصابع تشير إليه كعدو لئيم.
لقد التف حبل المشنقة حول رقبته بإحكام شديد، ولم يبق إلا أن يسقط هذا الداء جثة هامدة فى بئر سحيق لقد أصبح هذا الداء يترصد المدخنين من بنى الإنسان وإذا تصورنا أن مائة رجل يموتون ب سرطان الرئة فإن تسعين شخص من هؤلاء يكونون بسبب التدخين، وهذه نسبة مفزعة لمن يتبصرون، وبما أن المرأة قد اختارت لنفسها المساواة، ولكنها دفعت الثمن غاليا وقاسيا فلقد كان من نتيجة هذا أن زاد عدد ضحايا سرطان الرئة بين النساء وهذا الذى كان نادرا بينهن وارتفعت نسبته إلى أكثر من 400% وهذه إحدى مصائب المساواة.
تأثير التدخين على الرئة
ومما يبعث الأمل أنه قد ثبت بالتجربة أن الأطباء الذين كفوا عن التدخين قد أظهروا – بالأرقام – أن نسبة الوفاة بينهم بسبب سرطان الرئة قد انخفضت إلى 38% عما كانت عليه عند المدخنين.
إن هذه الحقائق والأرقام تزعج خاطرى كطبيب، إنها تملؤنى بالهموم من أجل أولئك الذين يدخنون ذلك لأن السرطان داء لعين، إنه كتل من الخلايا البشرية نفس الخلايا التى تتكون منها أجسادنا، غير أنها تنمو فى هوس وجنون وليتها تنمو على حساب نفسها ولكن على حساب غيرها وهى فى نموها لا تحترم قانونا سوى قانونها ولا تؤمن بشرعة غير بطون الأمهات وخلايا الأجنة من شأنها أن تنمو وتتكاثر، أما الخلايا البالغة العاقلة فإنها تعمل وتكدح من أجل رفاهية الآخرين إن الخلية البالغة فى ثدى المرأة مثلا وظيفتها إدرار اللبن أما إذا تحولت هذه الخلية إلى خلية سرطانية، فحينئذ يصبح كل همها أن تتكاثر وتنمو، ناسية وظيفتها الأولى وعملها الأصلى.
و السرطان يرهق جيرته من أنسجة وأعضاء، ثم يتطلع إلى الآفاق البعيدة يغزوها على شكل أورام سرطانية ثانوية، ولا يزال يوجه ضرباته فى كل مكان، حتى يدمر صاحبه شر تدمير.
و السرطان داء متهوس مجنون، ومن طبعه التدمير والتخريب، وهو لص هوايته أن يسرق تيجان الصحة من فوق رؤوس العباد.
أليست هذه الصورة يا عزيزى القارئ، جديرة بأن تثير القلق فى نفوس المدخنين؟..
إن الناس لا يزالون يملأون خياشيمهم بأنفاسه المسمومة السوداء، والشباب الناضر لا يزال يحرق صدره بالدخان الساخن القتال، والنساء الرقيقات من الطبقة الراقية، لا زلن يحاكين الرجال فى شرب الدخان، ولا زلن يتشبهن بالرجال، لا فى التدخين فحسب، ولكن فى ارتفاع نسبة السرطان.
لقد انطلقت عادة التدخين كالإعصار، لقد اقتحم التدخين حياة الناس بصورة مفزعة، وانتشر بينهم كما ينتشر الوباء، ومع انتشاره يجىء الدمار.
إنه يزحف بلا توقف، وقد آن للناس أن يرفعوا هاماتهم أمام هذا الزحف، وآن لهم أن يتحدوا أمام وجهه الكريه.
لقد أصبح التدخين مصدر شغب للناس أجمعين، ولم يعد ممكنا أن يسكتوا عنه، لأنه أصبح يروع أمنهم وسلامتهم ويبدد مسرات أيامهم.
إن التدخين هو قضية هذا العصر، ولقد أصدر العلماء حكما عليه بالإعدام.
ولابد من وقفة شجاعة حيال هذا العدو المشترك.
لابد من جبهة وطنية تتصدى له وتقاومه.
لابد من حظره على صغارنا وزهرات أيامنا.
لابد من تحريم الإعلان عنه فى أى مكان.
لابد من تحذير الناس وتبصيرهم بخطورته.
وويل للذين لا يستجيبون.
أما أنت يا عزيزى القارئ، فإننى أرجو أن تقرأ السطور الأولى من هذا المقال.
هل تريد أن تعود؟
أرجو ألا تعود.
تم النشر فى السنة الأولى - العدد السادس والعشرون - 25 أبريل «نيسان» 1977 - 7 جمادى الأولى 1397