شهد العالم خلال الأيام الماضية، عددا من الظواهر الجوية نادرة الحدوث نتج عنها ارتفاعا ملحوظا فى درجات الحرارة أدى إلى اشتعال الحرائق فى مئات الغابات ووفاة الآلاف المواطنين، إلا أن الأمر أمام القارة الأوروبية كان مضاعفا، فقد انضم الجفاف إلى موجة الحر الشديدة والحرائق التى تتعرض لها القارة العجوز، ودمر المحاصيل مما أثار مخاوف بشأن التهديد الذى يواجه الامدادات الغذائية فى العالم.
هذا ما أكده باحثون فى المفوضية الأوروبية، إذ حذروا من أن نحو نصف أراضى الاتحاد الأوروبى حاليا مهددة ب خطر الجفاف جراء موجة الحر الشديدة، فقد شهدت الدول الأوروبية فى الأيام الماضية ارتفاعاً كبيراً وغير مسبوق فى درجات الحرارة تجاوز فى بعض المدن الـ40 درجة مئوية، ما يشير إلى وجود "خطر على الحياة".
ومع ارتفاع درجات الحرارة فى أوروبا، التهمت الحرائق مساحات شاسعة من الغابات فى دول القارة، حيث يؤدى الطقس الحار إلى استنزاف الرطوبة من الغطاء النباتى، وتحويله إلى وقود جاف يساعد على انتشار الحرائق.
جاء ذلك فى تقرير لشهر يوليو، صادر عن مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية، بحسب "فرانس برس"، وقال التقرير، إن 46% من أراضى الاتحاد الأوروبى تعرضت لمستوى التحذير من الجفاف، بجانب 11% فى مستوى التأهب لخطر الجفاف، فى الوقت الذى تعانى فيه محاصيل بالفعل من نقص المياه، مما يتطلب اتخاذ إجراءات غير عادية لإدارة المياه والطاقة فى الدول المتضررة.
واعتبر العلماء أن الارتفاع الغير قياسى فى درجات الحرارة جاء نتيجة مباشرة للاحتباس الحرارى. حيث تزيد انبعاثات غازات الدفيئة من شدتها ومدتها وتواترها، كما تلعب التغيرات المناخية دوراً فى تغير أنماط هطول الأمطار فى أوروبا. فوفق دراسة أجراها مكتب الأرصاد الجوية فى المملكة المتحدة، فإن الغازات الدفيئة مسؤولة عن الظروف الجافة الطويلة المدى فى حوض البحر المتوسط.
وفى حالة إسبانيا، تقل أحجام المياه المخزنة فى الخزانات بنسبة 38% عن متوسط السنوات العشر الماضية، الأمر الذى أدى إلى لجوء بعض المدن الإسبانية إلى اتخاذ تدابير لترشيد استهلاك المياه، ومنها مدينة كانجاس، التى أزالت 20 دشا من الشواطئ لمنع الاستحمام من أجل ترشيد المياه.
أما فى فرنسا فيتأثر جزء واسع من البلاد بجفاف كبير، هو الأسوأ منذ عام 1958، بين موجات الحرارة المتتالية والغياب المطول لسقوط الأمطار، مما أدى إلى فرض قيود على المياه فى مناطق واسعة من البلاد، فعلى سبيل المثال، فرضت السلطات الفرنسية قيودا على استخدام مياه الشرب فى 90 مقاطعة فى ظل التأهب للجفاف.
ولم يختلف الوضع كثيرا فى البرتغال والتى تشهد جفافاً غير مسبوق منذ ألف عام، حيث تعانى 97.1% من الأراضى من الجفاف "الشديد"، كما وصلت الخزانات الكبيرة إلى مستويات منخفضة للغاية، والإنتاج الزراعى مهدد وسط تحول يطاول الإعصار العكسى فى جزر الأزور تحت تأثير تغير المناخ، الأمر الذى قد ينتج عنه عواقب وخيمة على زراعة الكروم وأشجار الزيتون.
وأشارت دراسة حديثة إلى أنه تم انقطاع المياه عن الحمامات فى الشواطئ التى رفعت العلم الأزرق كشعار للحفاظ على المياه، وأشارت سلطات المدينة إنها لا تستبعد ان يستمر هذا الوضع إلى الصيف المقبل.
أما على الصعيد الإيطالى، فيعتبر الأمر الأسوأ على الإطلاق وذلك بعد جفاف نهر بو الأطول في البلاد، الأمر الذى جعل مدن إيطالية مثل فيرونات تقوم بوضع قيود على مياه الشرب حتى 31 أغسطس، وذلك مع حظر رى الحدائق والملاعب الرياضية وملئ أحواض السباحة، وذلك من أجل ترشيد استهلاك المياه.
وبمطالعة المشهد، نجد أن جميع تلك التغيرات المناخية لها تأثير بالغ على إنتاجية الغذاء، حيث يقلل الجفاف كمية المياه اللازمة لإنتاج الأغذية والاحتياجات الأساسية للدول، كما تسبب تراجع مخزونات المياه فى التأثير على أنظمة التبريد ببعض محطات الطاقة فى دول الاتحاد، فضلا عن تأثير درجات الحرارة المرتفعة على نمو المحاصيل الزراعية، الأمر الذى يهدد الأمن الغذائى للدول الأوروبية، خصوصا مع الأزمة الموجودة بالفعل نتيجة تبعيات الحرب "الروسية- الأوكرانية"، وهو ما يخلق مخاوف مجتمعية تتعلق بعدم قدرة الحكومات على توفير الغذاء اللازم لمواطنيها.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه أوروبا أيضا أزمة فى قطاع الطاقة من المحتمل تفاقمها على وقع الحرب الأوكرانية والخلافات مع روسيا، فمع موجة الحر الخانقة المستمرة فى عدد من الدول الأوروبية قد تتفاقم تلك الأزمة، حيث تؤدى إلى زيادة الطلب على شراء واستخدام أجهزة تكييف الهواء التى تستهلك كميات كبيرة من الكهرباء، وهو الأمر الذى يعنى مضاعفة الطلب على الغاز الطبيعى لإنتاج الكهرباء.
جميع تلك الأمور قد تجعل الحكومات الأوروبية تتسارع إلى تبنّى مصادر طاقة نظيفة لتجنب ما يلحق بالبنية التحتية من دمار، والتعويضات والإصلاحات وغير ذلك، وهى التكلفة التى تتحملها الحكومات وتشكل عبئاً مضافاً على ميزانيتها، وهو ما سيؤدى بدوره إلى تقليل اعتماد الدول الأوروبية والصناعات على الغاز الطبيعى الروسى وزيادة قدرة التخزين الإضافى للطاقة المتولدة من المصادر المتجددة، ويفرض بمقتضى ذلك خيارات على المدى الطويل للتخفيف من صدمات الأسعار فى المستقبل، كتشجيع الاستثمار فى الطاقة النووية التى تعد مصدر طاقة منخفض الانبعاثات.