كل ما يمكن قوله عن الفيلم اللبناني "كوستا برافا"، الذي أنتج بمشاركة عدة دول أخرى أيضا مثل الدانمارك وفرنسا والنرويج وقطر و إسبانيا والسويد، أنه بموضوعه وقضيته من الأفلام الصديقة للبيئة، والتي تدافع عن حق الإنسان في بيئة نظيفة، وغير ملوثة، أما من حيث المستوى الفني، فنحن أمام مشكلات فنية كبيرة وواضحة، تتعلق أساسا بالكتابة.
فالفيلم، الذي أخرجته واشتركت فى كتابته مونيا عقل، لم ينجح فى تطوير معالجته وفكرته، ولكنه أخذ يدور حول نفسه، وبينما يفترض أن يدور الصراع بين من يقيمون مشروعا لدفن النفايات، وبين أسرة لبنانية هربت من بيروت الملوثة بالعوادم والنفايات إلى الجبل، فإن هذا الصراع يبدو خافتا وهامشيا، بل ويتوقف تقريبا بعد نصف ساعة من الفيلم، ليعمل المشروع مع أصحابه، وتتصارع الأسرة مع بعضها البعض.
يضاف إلى ذلك نقطة مهمة تجاهلها الفيلم، وهي إصرار الحكومة على إقامة هذا المشروع الملوث للبيئة، بالمشاركة مع فرنسا، هناك كلام عن فساد على نحو ما، ولكننا لا نعرف تفاصيل هذا الفساد، هل هي سمسرة أم إكراميات ورشاوى؟ وإذا كان ذلك هو نوع الفساد، فما علاقته بتلويث البيئة؟ ألا يمكن أن يكون هناك فساد فى مشروع صديق للبيئة أيضا؟
ما يحزن فعلا أن شخصيات الفيلم حية وواعدة وملهمة بدراما جيدة، فالأسرة مكونة من الزوج وليد بدري (الممثل الفلسطيني صالح بكري)، ورغم أننا لا نعرف له مهنة، سوى الاستفادة من خيرات الأرض التي يعيش فيها، إلا أنه شخصية قوية، ترفض المهادنة، وتدافع عن البيئة والطبيعة، محب لزوجته المغنية ثريا مروان (المخرجة اللبنانية نادين لبكي)، ويشترك معها فى التمرد والرفض للظروف القائمة، وللسياسيين الذين أغرقوا البلد، والاثنان تعارفا فى مظاهرة قديمة، وهما أيضا يحبان بنتيهما: المراهقة تالا، والصغرى ريم، التي تعيش جوا خياليا، تأثرا بالقصص التي تسمعها، بينما تعيش مع العائلة النازحة من بيروت الجدة زينة، والدة وليد، وهي شخصية مرحة، مصابة بالسرطان، ومع ذلك لا تتردد فى التدخين، وقبل موتها، توصي حفيدتها ريم بألن تأخذ الحياة على مأخذ الجد.
الحدث الوحيد المهم الذي يحرك الدراما هو اختيار المكان بالقرب من العائلة لإنشاء مشروع، يدشنه رئيس الجمهورية بنفسه، لإقامة مصنع تدوير للنفايات، ودفن نسبة قليلة من القمامة، وهو مشروع مشترك مع فرنسا، ثم نكتشف تدريجيا أنهم يلوثون الجبل والطبيعة، ويحرقون القمامة، ويفجرون الغابة لدفن النفايات، وينعكس ذلك على مياه حمام السباحة الصغير، الذي أقامه وليد لأسرته، ولكنه يرفض العودة إلى بيروت، رغم مشكلات التنفس لدى أمه، ويقرر أن يرفع قضية على الحكومة.
بدلا من أن نتابع القضية، وبدلا من توجيه الصراع بوضوح إلى محوره الأساسي، وهو العائلة ضد المشروع، يدور الفيلم حول نفسه، وتتكرر مشاهد لمشاجرات ثريا، التي تركت فنها، مع زوجها، وتحصل الجدة على السجائر من عامل بسيط فى المشروع، وتتفتح أنوثة تالا على الإعجاب بشاب يعمل فى المشروع، تتقرب منه، بينما يرفض هو العلاقة!! والطفلة ريم تكرر عد الأرقام حتى أربعين، لكي تحمي نفسها من الأخطار، ووليد يبدو على علاقة سيئة مع أخته عالية المهاجرة إلى كولومبيا.
كلها خطوط جانبية لا تحقق شيئا فى مجال الصراع المحوري، بين المشروع والعائلة، أما القضية المرفوعة، فنسمع عنها، ونسمع أيضا أنها رفضت، دون أن نعرف الأسباب، مع أنها موضوع الفيلم!
انشغل السيناريو بالعائلة ومشاكلها، وأصبح المشروع فى الخلفية، وأقصى ما يفعله وليد أن يسب ويشتم، ويهاجم الموسيقى التي يسمعها من المشروع، كما يقوم بإقامة سور حول بيته وأسرته، ويطلق النار أحيانا فى الهواء، وهكذا نصبح فى الحقيقة أمام خطين منفصلين: الأسرة فى ناحية، والمشروع فى ناحية، وكل طرف يسير فى طريقه، ولا يتقاطع مع الطرف الآخر.
العجيب أنه مثلما بدا المشروع قدرا مفاجئا مجهول الأسباب والتفاصيل، فإن أصحاب المشروع يغادرون المكان فجأة، ويتركون معداتهم، بعد مظاهرات جارفة فى منطقة كوستا برافا، التي يقام فيها مدفن النفايات، ولا نعرف بالضبط أين كانت هذا المظاهرات من قبل؟!
وبدلا من أن تساند ثريا أسرتها إثر توقف المشروع، فإنها تغادر المكان مع ابنتها المراهقة تالا، بينما يبقى وليد مع ابنته ريم، ولكن ريم سرعان ما تحزم حقيبتها أيضا، فيبحث عنها وليد، ويفتح لها باب السيارة، لتركب معه، ولا نعرف الضبط أين يذهبان؟ هل سيعودان للبيت؟ أم سيلحقان بثريا وتالا فى بيروت؟
تشوش كامل بسبب عدم تحديد الصراع المحوري، وتحويل قضية البيئة، إلى صراعات عائلية، والمحزن حقا أن مونيا عقل مخرجة جيدة جدا، وباستثناء مشهد مواجهة ثريا الأول لزوجها وليد، والذي رأينا فيه الكاميرا على وليد دون أن نرى تعبيرات ثريا الأكثر أهمية، بل ورأينا الكاميرا تركز على جسد وليد لا وجهه، باستثناء هذا المشهد، فإن قدرة مونيا على بناء المشاهد بصريا، وخلق الجو، وإبراز علاقة الأسرة بالطبيعة، كل ذلك قدم بشكل جيد، ومن خلال صورة جميلة، بل إن بداية الفيلم مميزة جدا، حيث نرى أجواء بيروت الملوثة بالغبار، ثم تقتحم الكادر سيارة محملة بالأحجار للتابعها الكاميرا، ونسمع من خلال الراديو كلاما على مشكلة النفايات والتلوث.
على مستوى التمثيل، كان صالح بكري أفضل ممثلي الفيلم، وهو ابن الممثل الفلسطيني المعروف محمد بكري، بينما لم تكن نادين لبكي مقنعة فى شخصية ثريا، ولا فى دور مغنية سابقة، خاصة أن صوتها لم يكن جيدا فى الأغنية التي غنتها لبيروت.
لا يكفى أن تكون لديك قضية هامة وشخصيات، الأهم أن تصنع من ذلك حبكة درامية، وأن تطور المعالجة وتعمقها، وأن تعرف ما هو أساسي، وما هو فرعي، حتى لا تختلط الأمور، وحتى لا يدور الفيلم حول نفسه، وأن تؤسس لكل حدث بشكل جيد، حتى لا تبدأ من فراغ، وحتى لا تذهب إلى الفراغ، وكلها مشاكل واضحة فى "كوستا برافا"، ولا تقل أهمية عن مشكلة لبنان مع التلوث، وأزمة دفن النفايات، التي يعرضها الفيلم المتواضع.