يبدو لي أحيانا أن الكتابة عن الفيلم المصري أصعب بكثير من الكتابة عن الفيلم الأجنبي، لأن الأمور واضحة في الأفلام الأجنبية، بينما تتميز بعض أفلامنا بالكثير من العشوائية في المعالجة، فتتضمن أجزاءً جيدة ولامعة، وأخرى ضعيفة، وكأنك تشاهد مباراة في الدوري المحلي: ما إن يطاردك النوم والملل، حتى تجد الفريقين قد اشتعلا بالحماس، وحتى تشاهد هجمات مبدعة وخطيرة، وتولد مبارة أخرى قوية، من قلب "تقسيمة" هزيلة في الشارع !
الفيلم الكوميدي وعنوانه "تسليم أهالي"، من كتابة الموهوب شريف نجيب، ومن إخراج المتميز "خالد الحلفاوي"، محير جدا، لأنه يجمع بين متناقضات كثيرة، فرغم أنه يحاول أن يقدم مغامرة فنية مختلفة عن السائد، إلا أن مشكلته الكبرى فى تلك الخلطة، التي جعلت الفيلم حائرا فى اختيار قانون المعالجة، بل حائرا أيضا فى تغليب الخط، الذي يقود الدراما، وانعكست هذه الحيرة على كل شيء، والمعروف أن وجود قانون للفيلم، أو طريقة محددة للمعالجة، ليس من باب تقييد صناع الأفلام، لكنها المانيفستو الذي يحدد وسائل التعبير، ويضع المتفرج فى جو العمل، ويعطي لكل العناصر الألوان المناسبة للتعبير عن الدراما.
فيلمنا لا شك فى طموحه، وفى محاولته لكسر المألوف، ولا شك فى أن مؤلفه يكتب شخصيات طريفة حقا، ويصنع مواقف ظريفة ومميزة، وكانت أكثر محاولاته توفيقا فى فيلم "لا تراجع ولا استسلام" لأحمد مكي، إلا أن تصنيف العمل عجيب وغريب، وأقرب ما يقال عنه أنه "خلطبيطة"، فلا هو فانتازيا صريحة، تعبر عن نفسها فى كل عناصر الفيلم، ولا هو يأخذ الشكل العبثي الكاريكاتوري الانتقادي الاجتماعي، الذي كان يميز أفلام رأفت الميهي، ولا هو يحاكي مثلاً أفلام القصص المصورة للأطفال، ولا هو محاكاة ساخرة كاملة (بارودي) لنوع معين من الأفلام، كأن تسخر مثلا من أفلام العصابات، لكنه فيه شيء من كل شيء، وبطريقة عشوائية تمامًا، أفقدت العمل لونه الخاص، وجعلته مثل نكتة، تتصارع على موضوعها فتاة تريد أن تتزوج والسلام، وأسرة كاملة نكتشف أنها عصابة تقوم بتهريب الماس، وتتعامل فى المخدرات، وتمارس القتل!
لو قلت إن قانون الفيلم هو الفانتازيا، فإن البداية خاطئة، لأن المشاهد الأولى أقرب إلى مبالغات اجتماعية كاريكاتورية، واختيار عمل صدقي (بيومي فؤاد) وبثينة (دلال عبد العزيز) كموظفين فى مصلحة حكومية، ومسألة طلب مواطن لنقل عداد الشقة، هي بداية عادية واقعية، ورغم مسألة رسائل الحب بينهما، والاحتفال بعيد ميلاد بثينة فى الأرشيف، وبحث ابنتها زاهية (دنيا سمير غانم) عن عريس فى عملها الجديد، كل ذلك يندرج تحت مبالغات الكاريكاتير لا الفانتازيا، ونحن ما زلنا طوال الوقت فى محيط الدراما الاجتماعية، بزواج صدقي من بثينة، وبطموح زاهية للزواج من خليل (هشام ماجد)، وهو طبيب يريد أن يهاجر إلى كندا، الحلم الذي يريده شباب كثيرون.
وحتى غرابة لقب عائلة زاهية يستوقف الموظف، الذي يدير مقابلة شخصية معها فى عملها الجديد (نبيل الحلفاوي)، ومن المقبول أن يستجيب لحديثها عن العرسان، الذين تحلم بهم، فهو يبدو مثل أب يتسلى بموقف غريب، وهي تبدو كفتاة "لاسعة"، نجد نماذج كثيرة تشبهها فى حياتنا الواقعية.
لكن مشهد الزفاف الذي يتحول إلى معركة بالرصاص بين الأسرة ومنافسيها، ينقل العمل فجأة إلى خانة أقرب إلى عالم الكوميكس والفانتازيا، حتى على مستوى الأسماء الغريبة، فتظهر بعد ذلك شخصيات متورطة فى صراع البحث عن ألماس فى الكوسة، مثل الزعيمة كباير (لوسي)، ومثل الخسيس وفاء النيل (محمد ممدوح)، وتتراجع فكرة الفتاة الباحثة عن عريس، لنجد أنفسنا أمام سخرية من عالم العصابات، دون أن تفهم العلاقة بين عمل الزعيمين صدقي وبثينة كموظفين فى مصلحة حكومية، وبين حياتهما السرية كزعماء عصابة، ودون أن تفهم كيف انتقل الفيلم إلى هذا الجو فجأة، بل إنك ستربط لأول وهلة بين هذا الانتقال، من واقع اجتماعي إلى كوميكس هزلي، وبين خيال زاهية الجامح، الذي نشاهد عينات منه، سواء فى كلامها، أو فيما تتخيله من زواجها من خليل.
من ناحية أخرى، فإن تفكيك قانون الواقع، والانتقال به إلى حرية كاملة تصل إلى الفانتازيا لم يكن كاملاً، فالشخصيتان المحوريتان زاهية وخليل، ظلتا تضعان أقدامهما فى عالمهما الخاص، رغم تورطهما فى حكايات العصابة والألماس: زاهية ما زالت تتمسك بالفوز بخليل كعريس، وخليل يبحث عن فرصة السفر إلى كندا، بينما كانت الشخصيتان المقابلتان، وهما صدقي وبثينة، قد انطلقتا نهائيا إلى قانون آخر، وتحولتا إلى شخصيتين خيالتين، والمدهش أن الثنائي زاهية وخليل سيواصلان البحث عن منطق تقليدي فى محاولات اختراق العصابة، بينما كان الفيلم قد صنع منطقا آخر للمعالجة، فكأنك أمام شخصيات عادية، قد دخلت بصورة عشوائية فيلما فانتازيا!
إذا كان صناع الفيلم يفهمون الفانتازيا بأن تفعل الشخصيات "أي حاجة"، وأن تضحك، وأن تبتكر شخصيات غريبة وطريفة، فهم مخطئون، لأن الفانتازيا، والكاريكاتير، والكوميكس.
أي شكل للمعالجة له منطقه وقانونه، بل لابد من التمهيد له من أول لقطة، وإلا حصلنا على هذه "الخلطبيطة"، التي جعلت فتاة تبحث عن عريس داخل حرب للعصابات، التي لقت نهاية عشوائية تجمع بين الحصول على الألماس، وبين الحصول على عريس.
والحقيقة أن خط علاقة زاهية وخليل هو الأجمل، وأفضل أجزاء الفيلم هي مشاهد مركز حل الخلافات الزوجية فى الجزء الأخير، التي تجعلنا نرى أن هذه العلاقة جديرة بمعالجة اجتماعية كوميدية رومانسية مستقلة، ولا نعرف بالضبط كيف قفزت هذه العلاقة إلى مولد الهزار بين عصابات المخدرات والألماس؟ ولا كيف اختلطت حكاية كباير بقصة سائق الأوبر وبحواديت شمشون ؟ ولا نعرف أيضا كيف دخل رجال الشرطة بزيهم التقليدي إلى عالم الكوميكس فى نهاية الأحداث؟
هذه التفاصيل ليست هامشة، لأنك إذا اخترت أن تقدم فانتازيا مثلاً، فإن كل عناصر الفيلم يجب أن تترجم هذا الشكل، أما هنا، فقد انعكست الفوضى على كل العناصر، فالطريقة، التي يؤدي بها الرباعي بيومي ودلال ودنيا وهشام عادية تماما، ولا علاقة لها بالعالم الكاريكاتيري، الذي يعيشون فيه، ولا بالطريقة الغريبة التي تظهر بها شخصية مثل كباير أو شمشون مثلا، وخالد الحلفاوي، وهو مخرج جيد وفاهم، يبدو هنا حائرا فى خلق طابع خاص يناسب الخيال المنطلق، الذي قفز إليه الفيلم، حتى الديكورات والملابس، التي يفترض أن تعبر بحدة عن هذا الخيال، لم تكن على قدر الخيال، وظلت هناك حلقات ناقصة، رغم وجود مشاهد كوميدية جيدة ومبتكرة.
"تسليم أهالي"، الذي يحيلك فى عنوانه إلى مصطلح شعبي واقعي، يعبر عن تسليم الشخص إلى الجهات الرسمية بطريقة لا تخلو من خداع، يكاد يترجم بدون قصد نفس المعنى فى معالجته المضطربة، فيسلم المتفرج إلى خليط من الألوان غير المتجانسة، فلا يبقى معك إلا القليل من الأشياء الجميلة مثل إهداء الفيلم للراحلين الرائعين سمير غانم، الذي أضحكنا فى لقطة واحدة، ودلال عبد العزيز، التي حاولت تقديم دور جديد ومختلف، وإن كانت دنيا، ابنتهما الموهوبة، هي نجمة الفيلم بدون منافس، بدور زاهية، وبتقمصها لشخصية الخادمة الظريفة فى قصر المجرمة كباير.