رأت مجلة "ذا ديبلومات"، المتخصصة في الشئون الآسيوية، أن التنافس المعاصر للقوى العالمية الكبرى في منطقة جنوب آسيا دفع دول المنطقة نحو استغلال مياهها الإقليمية واعتبارها جزءا أصيلا من هويتها الوطنية.
وأضافت المجلة أنه خلال حقبة ما بعد الاستعمار، ساد نظام الدولة الحديثة البري الذي تتبناه دول مستقلة ذات سيادة يفصلها حدود قانونية لا تمثل فيها البحار والمحيطات أساسا تُبنى عليها العلاقات الدولية، وبالتالي ظلت البحار والمحيطات بعيدة عن أي شكل من أشكال التقسيم.
وسياسيا، بحسب "ذا ديبلومات"، شكلت الحدود البرية أسباب اندلاع الصراعات الحدودية بالمنطقة (جنوب آسيا) خلال تلك الحقبة، مما أدى إلى زيادة الاعتماد على القوات البرية والاستثمار فيها بنسب أعلى بكثير مقارنة بالقوات البحرية، حيث كانت مصادر التهديدات الوجودية تأتي دائما عبر الحدود البرية.
أما من الناحية الاقتصادية، بدأت دول جنوب آسيا تنطوي على نفسها بعد تحررها من قبضة الاستعمار وظهورها على مسرح النظام العالمي، فتوقفت شبكات وطرق وممرات التجارة عبر المحيط الهندي، كما بدت الأسس الاقتصادية لهذه الدول حديثة الاستقلال مصبوغة بمبدأ الاكتفاء الذاتي، فضلا عن افتقارها لبعض العناصر الهيكلية التي يعتمد عليها النظام العالمي، كالاتصال والتجارة الحرة وضعف قوى العولمة.
بينما على المستوى الثقافي-الاجتماعي، تعثرت الهجرات الحرة والقسرية في ظل فرض الحدود السياسية الاستراتيجية، فرغم استمرار دور البحار في توحيد بعض العناصر عبر الدول، إلا إن هذا الدور بات لا يمثل أهمية حيوية بالنسبة لهذه الدول منذ استقلالها، بعدما أضحت الحدود البرية بالنسبة لها جزء من هويتها الوطنية.
وأشارت "ذا ديبلومات" إلى أن الحقائق المعاصرة تشير إلى تحول دول منطقة جنوب آسيا عن تلك التوجهات التي وسمت حقبة ما بعد الاستعمار، ففي إطار سعي هذه الدول إلى تعزيز أمن الطاقة وكسب نفوذ استراتيجي، بدأت هذه الدول تتجه إلى استغلال المسطحات المائية المحيطة بها.
ولإثبات حقيقة هذا التحول، استشهدت "ذا ديبلومات" بحملات الهند المنتظمة في المحيط الهندي على مدار العقد الماضي، بينما تحاول الترويج لنفسها كأحد موفري خدمات أمن شبكات المعلومات بالمنطقة الممتدة من مضيق هرمز غربا ،حتى مضيق ملقا شرقا الممتد ما بين شبه جزيرة ماليزيا وجزيرة سومطرة الإندونيسية بطول 805 كم.
كما لفتت المجلة إلى ما تبذله إندونيسيا في سبيل تشكيل "هويتها البحرية" كإحدى دول المحيط الهندي بعد سنوات من الفوضى الداخلية، وكذلك تطلع بنجلادش إلى استغلال منطقة خليج البنغال بتطوير موانيها وقدراتها البحرية، واتجاه باكستان نحو الاستفادة من موقعها على ساحل بحر العرب والمحيط الهندي عبر ميناء جوادر الذي يربط جنوب آسيا ب آسيا الوسطى والشرق الأوسط.
وترى "ذا ديبلومات" أن هذا التحول في سياسات دول المنطقة تجاه مسطحاتها المائية يمكن تعليله بأربع أسباب أولا تغير علاقة الدولة بالأسواق على المستوى الإقليمي، مما أسفر عن تغير الأولويات المحلية، ففي ظل الانفتاح الاقتصادي زاد الاعتماد على إمدادات الطاقة والنمو الاقتصادي القائم على الصادرات، الأمر الذي يتطلب مبادرة من الدول للاستثمار في القطاع البحري كمجال للنقل.
ثانيا أصبحت البحار والمحيطات أحد الأصول الثمينة، خاصة في ظل التحسن التدريجي في آفاق تسخير الاقتصاد الأزرق، حيث يزداد اهتمام الدول حاليا بالتنقيب عما تحويه البحار والمحيطات من موارد كالمعادن والهيدروكربونات.
ثالثا باتت دول جنوب آسيا تتمتع بقدرة وثقة أكبر تؤهلها لاستعراض قوتها خارج النطاق المحلي، فبفضل الاستثمار في الموانئ والمعدات البحرية على مدار السنوات الأخيرة، أضحت هذه الدول تتطلع إلى ما وراء حدودها البرية وتخطط لتشكيل مناطق نفوذها الخاصة بالمنطقة، فبعد سنوات من الفوضى المتعلقة ببناء الدول ومع تمتعها بقدر بسيط من القوة الاستراتيجية، أصبحت هذه الدول مستعدة لاستعراض قوتها والانخراط في لعبة النفوذ الإقليمية بدلا من الانسحاب منها.
وأخيرا باتت دول منطقة جنوب آسيا تدرك محدودية طابع الأمن البحري، بمعنى أن أي تهديد ساحلي - سواء كان تهديدًا من دولة أخرى أو كيان غير رسمي أو كارثة طبيعية – لابد أن تمتد آثاره إلى المجال البري، وعليه فليس من الممكن استبعاد المجال البحري في تشكيل سياسات تلك الدول، بل إنه في بعض الحالات ربما ساهم هذا الإدراك في الوصول إلى أرضية مشتركة لتعزيز التعاون البحري على المستوى الإقليمي.