الشعب ومواجهة الهجمة المرتدة

تظل تجارب الشعوب نماذج ملهمة فى مواجهة التحديات، وعبور الأزمات.

فخلال الحروب غير المباشرة تتجه القوى الخارجية دائمًا إلى المواطن فهو المُستهدف للتأثير على حالة الوعى لديه.

وفى فترة الأزمات تصبح العمليات المعادية أكثر تأثيرًا، لما تجده من مناخ مواتٍ وأرض خصبة للعمل فيها.

ويصبح وعى الشعب وإيمانه بوطنه هو حائط الصد القوى لمواجهة القوى الخارجية.

وعقب الحرب العالمية الثانية بدأ الشعب الألمانى إعادة بناء دولته، التى خلّفتها الحرب العالمية الأولى والثانية أطلال مدن.

فاصطف الشعب الألمانى لبناء بلاده، وتحوّل الجميع إلى أيادٍ عاملة، ليكتب الألمان على جدران الحوائط المهدمة، وبقايا المنازل المتأثرة بالقصف، عبارات لشحذ الهمم منها «المستحيل ليس ألمانيا» و«ألمانيا لا تعرف المستحيل» كما تم رفع الروح المعنوية لبقايا الجيش الألماني.

عمل الشعب الألمانى بالكامل من أجل البناء، فكانت الأسر تعيش فى العراء؛ لكنها لم تيأس.

وفى أغسطس 1945، بعد أن أسقطت القوات الأمريكية قنبلة ذرية على جزيرة هيروشيما اليابانية، وحصدت أرواح عشرات الآلاف، وتحولت هيروشيما إلى أرض محروقة، واعتقد كثيرون، وفق ما جاء على لسان هارولد جاكوبسن، وهو أحد العلماء المشاركين فى «مشروع منهاتن»، أنها لن تصلح للعيش أو الزراعة لمدة 70 عامًا.

لكن على عكس ما توقعه هارولد ففى خريف 1945، خرجت من الأرض الميتة أعشاب برية، ثم أزهرت أشجار الدفلى فى الصيف، وأنبتت أشجار الكافور، التى يصل عمر بعضها إلى مئات السنوات، فروعًا جديدة.

حرك ظهور هذه الأزهار والنباتات مشاعر اليابانيين، وتحولت زهرة الدفلى، وشجرة الكافور فيما بعد إلى الرمزين الرسميين لصمود المدينة، وحظيا بمكانة كبيرة فى قلوب سكانها.

وبدأت عملية إعادة بناء المدينة من جديد عام 1949 لتتحول من ركام إلى أكبر مركز تجارى متطور.

إنها إرادة الشعوب وقدرتها على تحقيق المستحيل ومواجهة الأزمات وبناء وعى راسخ قادر على مواجهة أى محاولة تستهدف التأثير على المشروع الوطني.

خلال الأسبوع الماضى وردًا على سؤال توجه به أحد الشباب للدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، فى «ملتقى لوجوس الثالث للشباب 2022» بمدينة العلمين، عن الدور الذى يجب أن يقوم به الشباب المصريون فى الخارج لوطنهم الأم، قال رئيس الوزراء: دوركم الحقيقى هو أن توضحوا الصورة الحقيقية لمصر من خلال تعاملاتكم اليومية وعبر حساباتكم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي.

فعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية قام مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، برصد 150 مقالة تم نشرها فى جرائد وصحف ومواقع عالمية أغلبها يحمل صورة سلبية عن مصر، وهى مقالات مدفوعة من قبل جهات معينة، وهو ما يجب أن تصححوه من خلال تفاعلاتكم المختلفة.

ما ذكره رئيس الوزراء يكشف حجم المواجهة التى يصبح الشعب فيها رقمًا مهمًا وما يمتلكه من وعى أقوى أسلحة المواجهة.

لكن دعونا نتوقّف عند بعض النقاط المهمة هنا:

ـ حجم المعركة التى تواجهها الدولة حاليًا.. ولماذا يتم اختيار التوقيت الحالى لها؟! ومسارات التحرك؟!

ـ الأدوات المستخدمة فى تلك الحرب للنيل من الدولة؟!

ـ دور الإعلام فى المواجهة؟!

(1)

لم يدهشنى الرقم الذى ذكره رئيس الوزراء خلال حواره مع الشباب، فهو رصد للمقالات المنشورة فى المواقع والصحف الكبرى فقط، إنما الحقيقة هناك سيل من الأكاذيب وإعادة إنتاج لكذب سابق فى محاولة لإضفاء شكل جديد عليه ينشر على مدار الساعة على صفحات السوشيال ميديا (فيس بوك، تويتر) وكذا اليوتيوب والتيك توك، والمنصات الحقوقية.

فالمتابع للمشهد بالكامل يستطيع أن يرصد الحالة الممنهجة التى تسير وفق خطة مدروسة لا تتحرك بعشوائية.

فبرصد بسيط ومتابعة متعمّقة تستطيع أن تجد الروابط والتقاطعات التى تجمع تلك التحركات، مستهدفة الدولة المصرية؛ فى موقف أشبه بالهجمة المرتدة، فى محاولة لاقتناص فرصة لتحقيق أى مكاسب حتى ولو على حساب الوطن.

وقد تم اختيار التوقيت والعمل عليه مستغلاً ما ذكرته من قبل فى مقالات سابقة؛ المرحلة التى تكون فيها الدول تواجه بعض التحديات أو الأزمات مما يجعلها أرضًا خصبة لاستقبال أدوات تلك المواجهة من نشر للأكاذيب، والتأثير السلبى فى العلاقة بين الشعب والنظام، تحت ستار متعدد المسميات وفق الحالة والظروف والأحداث.

ذلك المسار لم يتغير كثيرًا خلال الفترة الأخيرة عن السابق، بل إنه أشبه بإعادة اجترار ما مضى، متناسيًا أن الشعوب سرعان ما تتعلم من دروس التاريخ، فتصبح أكثر حصانة وقدرة على الفرز، واستجلاء الحقيقة.

لكن للأسف تلك العناصر تصر على نفس المسارات، بدءًا من استكتاب عناصر تحاول إعادة إنتاج نفسها من جديد بحثًا عن الضوء بعد أن خفت بريقها وبهتت صورتها وسط التحرك المتسارع للدولة.

وهذا الأمر ليس وليد اللحظة الحالية لكنه تكرر كثيرًا، فقضية تحليل المستقبل وتقديم تحليلات تنبئ به لتوجهه فى اتجاه معين، هو أسلوب أتقنه البعض للعودة من خلاله إلى الأضواء من ناحية، وخدمة توجه داعم له من ناحية أخرى.

فى الوقت ذاته كانت صفحات على السوشيال ميديا أعدت منذ عامين تقريبًا، قد شهدت نشاطًا ملحوظًا رغم ضعف عدد المتابعين لها استهدفت تشويه صورة القوات المسلحة ونشر الأكاذيب، وتقديم مواد فيلمية مفبركة وقامت بتمويل المواد المنشورة للوصول إلى أكبر عدد من المستخدمين.

ولم يكن استهداف الجيش والداخلية من قبل هؤلاء عشوائيًا إنما هو محاولة لتشويه العلاقة بين الشعب وقواته المسلحة والأجهزة الأمنية؛ لكن هؤلاء لم يدركوا قوة وصلابة العلاقة بين الجيش والشعب وكذا الأجهزة الأمنية، لأنهم من أبناء القوات الشعب المصري، فلا يخلو بيت مصرى من أحد أفراد القوات المسلحة أو الشرطة، وهو ما يقف حائلا دون نفاذ هؤلاء من محترفى التزييف والكذب للتأثير فى تلك العلاقة الأبدية بين الشعب وجيشه.

كما أن الجيش والشرطة هما حجر العثرة أمام مشروع الفوضى، فى إطار حرصهما على أمن واستقرار الوطن وحفظ مقدراته.

كما جذبت بعض المنصات أسماءً لامعة لاستكتابها وأغدقت عليها من المال، لتقديم مجموعة من المقالات التى تنشر بالتزامن مع بعض المواقع فى منصات تابعة لسفارات دول مثل الولايات المتحدة وغيرها.

وهذا الأمر أيضًا لا يخلو من إعادة إنتاج شخصيات لم تكن معروفة من قبل لدى المتابع، ليسهل عليها التأثير والوصول إليه؛ للتشكيك فى قدرة النظام على مواصلة برنامجها التنموى والحديث المتواصل عن المستقبل بهدف خلق حالة من اليأس والإحباط لدى الشعب.

(2)

لم يكن ما سبق فقط كل أدوات الحرب المستهدفة للدولة المصرية من قبل قوى الشر، بل كان التحرك أيضًا باتجاه محاولة التأثير على العملة الوطنية، وهو ما حرصت عليه عناصر الجماعة الإرهابية بدعوى المواطنين لسحب الدولار من البنوك لإحداث مضاربة عليه فى السوق الموازية كما حدث من قبل، خاصة المصريين بالخارج.

وهو ما دعا إليه الإخوانى الهارب عمرو عبد الهادي، فى الوقت الذى كان يدعو فيه الأتراك لدعم الليرة التركية، من خلال تقديم ما يمتلكونه من دولار للبنوك لمواجهة انهيار الليرة أمام الدولار.

فى الوقت ذاته كانت مواقع مثل الجارديان البريطانية تنشر مقالات مدفوعة للإساءة للدولة المصرية، وكذا مواقع العربى الجديد، وعربى 21 وبعض الإذاعات مثل BBC العربية، فى توقيت مرتّب يكشف حجم التحرك ضمن خطة هجمة مرتدة تستهدف الدولة المصرية.

إنها محاولة لتقديم صورة غير حقيقية عن مصر والأوضاع الاقتصادية والحريات بها، مستهدفة خلق حالة من الفوضى مرة أخرى.

لكن تلك القوى (قوى الشر) ومن يقفون خلفها يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس جيدًا.. الدرس الذى قدمه الشعب المصرى لهم من قبل، ما زالوا لم يدركونه.

نعم هم يحاولون بقوة للنيل من قوة تماسك الشعب المصرى والتفافه حول مشروعه الوطني؛ لكنه شعب أكثر وعيًا وإدراكًا للحفاظ على ما حققه وما يسعى لاستكماله رغم ما يواجهه من تحديات وتحمله لتبعات صعبة تأثر بها اقتصاديًا بشكل كبير، لكنه دائمًا أكثر قوة وقدرة على التحمل للعبور بالوطن لغدٍ أفضل.

إن الوعى أخطر قضية تواجه المجتمعات على مستوى العالم، وهو الدور الذى يجب على الإعلام مواصلة القيام به خلال تلك المرحلة، لتوضيح الحقائق وكشف محاولات تشويه الصورة، وتدقيق المعلومة لمواجهة سيل الأكاذيب.

الفترة الحالية تعد بمثابة مرحلة كاشفة فى عمر الوطن، تحتاج منا جميعًا الاصطفاف مع الدولة لعبور مرحلة من أدق مراحل تاريخها فى ظل مسرح عالمى مضطرب يعيش مرحلة مخاض ليتشكل نموذج جديد خلال المرحلة المقبلة.

فى ظل أزمات متلاحقة ضربت الجميع وأثّرت بشكل مباشر على اقتصاديات الدول والشعوب.

إن الشعوب الأكثر قدرة وصلابة على تحمل تلك المرحلة هى الأقدر على الفوز بموقع متميز فى المرحلة القادمة على المسرح العالمي.

أضف تعليق