ورد سؤال إلى دار الإفتاء يقول فيه صاحبه"ما حكم اتباع النساء الجنائز؟"، وجاء رد الدار على هذا السؤال كالتالي:
أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتِّبَاعِ الجنائز، وأخبر أنَّ فاعل ذلك له مثل جبل أحد من الأجر؛ ترغيبًا في اتباعها، وبيانًا لعظيم فضلها؛ فقد روى الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنَ الأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ»، وفي روايةٍ أخرى في "صحيح البخاري" أيضًا: "قَالَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُصَلِّي عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ، فَلَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقَدْ ضَيَّعْنَا قَرَارِيطَ كَثِيرَةً".
كما جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اتِّبَاعَ الجنائز من حقوق المسلم علي المسلم؛ فقد روى الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ»، وروى الإمام البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بِسَبْعٍ: بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ، وَنَصْرِ الضَّعِيفِ، وَعَوْنِ الْمَظْلُومِ، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ، وَنَهَى عَنِ الشُّرْبِ فِي الْفِضَّةِ، وَنَهَانَا عَنْ تَخَتُّمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ رُكُوبِ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالْقَسِّيِّ وَالإِسْتَبْرَقِ".
وقد اختلف الفقهاء في حكم اتباع النساء للجنائز:
- فذهب السادة الحنفية إلى أن اتباع النساء للجنائز مكروهٌ كراهة تحريم؛ قال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 232، ط. دار الفكر): [(قوله: ويكره خروجهن تحريما)؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ» رواه ابن ماجه بسند ضعيف، لكن يعضده المعنى الحادث باختلاف الزمان الذي أشارت إليه السيدة عائشة بقولها: "لَوْ رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسْجِدَ كَمَا مُنِعَتْ نِسَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ"، وهذا في نساء زمانها، فما ظنك بنساء زماننا، وأما ما في "الصحيحين" عن أم عطية رضي الله عنها: "نُهينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا"؛ أي: إنه نهي تنزيه، فينبغي أن يختص بذلك الزمن، حيث كان يباح لهنَّ الخروج للمساجد والأعياد] اهـ.
- ويرى فقهاء المالكية جواز الخروج للمرأة كبيرة السن مطلقًا، وكذا الشابة التي لا تخشى فتنتها خاصة إذا كانت الجنازة لمن عظمت مصيبته عليها؛ كأبٍ، وأمٍ، وزوجٍ، وابنٍ، وبنتٍ، وأخٍ، وأختٍ، أما من تخشى فتنتها فيحرم خروجها مطلقًا؛ قال العلامة الصاوي المالكي في "بلغة السالك لأقرب المسالك" المعروف بـ"حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (1/ 566، ط. دار المعارف): [(و) جاز (خروج مُتَجَالَّةٌ) لجنازة مطلقًا (كشابة لم يخش فتنتها) يجوز خروجها (في) جنازة من عظمت مصيبته عليها (كأب) وأم (وزوج وابن) وبنت (وأخ) وأخت، وحرم على مخشية الفتنة مطلقًا] اهـ، فالمُتَجَالَّة هي: المرأة العجوز التي لا رغبة للرجال فيها. قال في المرجع السابق: [(و) جاز (خروج) امرأة (مُتَجَالَّةٍ) لا أرب للرجال فيها] اهـ، وجاء في "غريب الحديث" (2/ 121، ط. دار الفكر): [مُتَجَالَّةٌ وجَلَّت فهي جَلِيلَةٌ إذا كبرت وعجزت] اهـ.
- أما فقهاء الشافعية والحنابلة فيرون كراهة الخروج للنساء مطلقًا؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 277، ط. دار الفكر): [وأما النساء فيكره لهن اتباعها ولا يحرم، هذا هو الصواب، وهو الذي قاله أصحابنا... هذا الذي ذكرناه من كراهة اتباع النساء الجنازة هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وأبي أمامة وعائشة رضي الله عنهم، والأئمة مسروق والحسن والنخعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وبه قال الثوري، وعن أبي الدرداء والزهري وربيعة أنهم لم ينكروا ذلك، ولم يكرهه مالك إلا للشابة، وحكى العبدري عن مالك أنه يكره إلا أن يكون الميت ولدها أو والدها أو زوجها، وكانت ممن يخرج مثلها] اهـ، وقال العلامة ابن قدامة المقدسي في "المغني" (2/ 356، ط. مكتبة القاهرة): [ويكره اتباع النساء الجنائز] اهـ.