لم يكن الطفل شنودة هو الأول الذي يقع تحت براثن القيود الدينية، سبقته ملكة بريطانيا العظمى قبل ٩٦ عاما حيث أيفعت الطفلة إليزابيث داخل الكنيسة البروتستانتية التي تلزم الأسرة الانجليزية الحاكمة أن تتمم طقوسها داخل الكنيسة التاريخية "ويستمنستر آبي" التي يتوج فيها ملوك بريطانيا وملكاتها عادةً، وقد كانت شاهداً على مراسم تتويج الملكة الراحلة في عام 1953، و إكليلها بالأمير فيليب في عام 1947.
برحيلها طوى الزمن عمراً تمطى لسبعة عقود لم يعرف فيه الشعب البريطاني ملكة سواها، ربما العالم من حولها انسلخ من التيار اليميني و فصل السلطة السياسية عن الدينية إلا أن الملكة إمتنعت عن حضور مراسم طلاق ثلاثة من أبناءها داخل الكنيسة لان ذلك ينقض معتقدها الديني "فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان"..حتى مع الإنباء بخبر نياحتها نُعتت بلقب "حامي العقيدة" وهي الرأس الأعلى للكنيسة الأنجليكانية، وسيوضع على نعشها الصولجان والكرة الذهبية التي يعلوها الصليب، باعتبار أن العاهل البريطاني يعد رئيس الكنيسة.
ذات القيد الديني الذي كبّل مسيرة "إليزابيث" تمادى للطفل شنودة الذي وجد منزوٍ في أركان كنيسة و عمره أيام، فقررا زوجان تبنيه بعد استشارة الكاهن، إذ لم يرزقا بأطفال، ولان التبني لا يخالف الشريعة المسيحية، لكن يستند قانون التبني في مصر إلى الشريعة الإسلامية التي تعتبر فاقد الأهلية مسلما بالفطرة. أقصوصة لم تتضافر تفاصيلها مع خواتيمها، فمنذ أطلق الزوجان على الطفل اسم شنودة فاروق فوزي، وعاش بينهما لأربع سنوات، قبل أن تتقدم بنت أخت الزوج بشكوى إلى النيابة العامة للطعن في نسب الطفل إلى الأسرة الحاضنة، حينها خضع الزوجان والطفل لتحليل الحمض النووي، وثبوت عدم نسبه لهما، فقررت النيابة العامة إيداعه دار أيتام بوصفه "فاقدا للأهلية" وتغيير اسمه إلى "يوسف".
إذن.. ألا أوصدت أبواب الانسانية حين وجد شنودة مجاورا لباب كنيسة؟! هل الأمر يجزم بديانة أهله الحقيقيين؟!.. وإذا كان فهل يجلب الباب مشقته؟! ..
3 أعوام و4 فصول مرت على الطفل شنودة في كنف أبواه اللذان منحاه الإنسانية التي هو في أشد العوز إليها وهما كذلك. آلاف الغلمان تراهم في الأزقة يتسكعون ويهيمون في الشوارع على وجوههم وينامون في الطرقات ويفترشون قطعا كرتونية وينبشون النفايات ليقتاتوا منها ويسترون أجسادهم بالملابس الرثة والمتسخة ويعانون ظروف صحية مستعصية، يتلهفون صيفا ويلتهم الأسفلت أقدامهم، وتمضغ البرودة أجسادهم الناحلة، ناهيك عن المتاجرين بهم وفيهم، هيئتهم تتفوه بضعفهم وقلة حيتلهم وهوانهم على الناس، يرجون إنفاذ روح القانون ورحمة الأديان.. أولئك أولى بالملاجئ من شنودة.. الطفل اللقيط ما يعنيه كونه مسلما أو مسيحيا، فهي أديان سماوية حضت على الإنسانية، وفي دولتنا المصرية الغالية وتحديدا منذ 8 سنوات، جميعاً نحيا كواحد آمنين.
أعلم أني قد لا أرى الصورة كاملة فهناك دائما بقية للحكاية، وخفايا لا يعلمها سوى ذويها، إلا أن "الديانة هي القانون الذي فينا، إذ تستمد قوتها من مشرّع أو قاض فوقنا جميعا..الديانة أخلاق مطبقة على معرفة الله، فإذا لم تكن الديانة مرتبطة بالأخلاق تتحوّل إلى سعي من أجل كسب الإنعامات، وأن الطريق الوحيد الذي بواسطته يمكننا ارضاء الله هو أن نصبح أشخاصاً أفضل مما نحن عليه، كما يقول "ايمانويل كانط" في الإجابة عن سؤال ما التنوير.
أما الإمام السيوطي فيقول "الوازع الطبيعي يغني عن الوازع الشرعي" وهذا يعني أننا لسنا في حاجة إلى "تديين" البديهيات كي نثبت لها أصل ومنطق. لا نحتاج إلى نص ديني يقول إعطي الماء إلى من بجوارك لانه عطشان، فهناك وازع طبيعي وهو الإنسانية والفطرة السوية.