«البحر أمامكم» صور هائمة في الفراغ

«البحر أمامكم» صور هائمة في الفراغمحمود عبد الشكور

الرأى20-9-2022 | 14:22

يقولون "ليس من رأى كمن سمع"، وقد سمعنا كثيرا عن موهبة هذا المخرج اللبناني إيلي داغر، الذي فاز فيلمه القصير "موج 98" بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان، والذي عرض فيلمه الطويل الأول "البحر أمامكم"، موضوع هذا المقال، في أسبوع نصف شهر المخرجين في مهرجان كان 2021، وعرض أيضا في مهرجان برلين 2021، مما ينبيء عن عمل مهم ومتميز، ولكن كيف بدت الصورة بعد أن رأينا الفيلم الطويل بالفعل ؟

الحقيقة أن النتيجة مخيبة للآمال، فرغم أن إيلي داغر، الذي كتب أيضا سيناريو فيلمه الطويل الأول، لديه مهارة فى تقدم صورة سينمائية جيدة، وقدرته لا بأس بها فى إدارة ممثليه، ولكن كتابته فيها الكثير من المشاكل، فليست الحكاية مجرد براعة تقنية، ولكن فى أن تصنع دراما جيدة فى المقام الأول، وفي أن تحدد دوافع شخصياتك، والفكرة التي تناقشها، وأن تطور معالجتك، لا أن تكرر وصف الحالة، وأن يكون زمن السرد متناسبا مع كل ذلك، وكلها أمور بديهية ومعروفة.


لكن فيلم "البحر أمامكم" بعيد عن كل ذلك، وأظن أن إيلي لم يستطع أن يستوعب فكرة الفيلم الروائي الطويل، الذي يحتاج الى تطوير متواصل للفكرة، وانتقال أوضح للشخصيات من حال الى حال، والذي يستوعب تفريعات وتنويعات للتيمة الأساسية، وإلا تحول الأمر كما رأينا الى دوران فى المحل، بحيث نميل الى الإعتقاد أنها معالجة كان يكفيها فيلم قصير.
لم تدرس الشخصيات بصورة جيدة، ولم ينجح الفيلم فى التفرقة بين الحديث عن تشوش وحيرة أبطال الفيلم، وبين حيرة المخرج نفسه فى اختيار المقام والنغمة والفكرة ومعادلها الدرامي.


خلال ساعة كاملة، لا تستطيع أن تفهم بالضبط مشكلة بطلتنا جنى (منال عيسى)، الفتاة اللبنانية العائدة فجأة الى بلدها، بعد أن قطعت دراستها للفنون الجميلة فى فرنسا، وتركت عملها هناك فى المطاعم، وفي محلات الأغذية، ما سر فشلها أصلا؟ ولماذ تبدو ساهمة وحزينة ومنتظرة لطوفان قادم؟


ورغم محاولات الأب والأم لإخراج جنى من حزنها، ودفعها للفضفضة والمرح، سواء برحلة صيد، أو بحضور فرح، أو بزيارة من خالها، فإننا لا نفلح فى الوصول الى شيء.


ساعة كاملة أو أكثر ونحن فى هذه الحالة الغامضة، المفتوحة على كل التساؤلات، لماذا فشلت؟ ولماذا عادت؟ هل حزنها شخصي؟ أم أنه قلق وحزن وجودي؟ ما الموضوع ياجنى؟


لا شيء سوى فتاة "ضاربة بوز"، وتعاطف والديها معا، وثرثرة فارغة عن بواخر تبدو من خلف بنايات بيروت، إنه الميناء المستتر وراء المدينة.


مع ظهور الحبيب السابق آدم، نلتقط الأنفاس، ويراودنا الأمل فى أن نعرف الحكاية، ولكننا سنعرف فقط أن جنى تركت بيروت بسبب أحداث عنف مسلح، وأنها تجد نفسها فى أحضان آدم، عاشق الموسيقى الذي يعيش حياة حرة وصاخبة.


هناك مشاهد كثيرة متكررة لعلاقتهما الرومانسية أو الجسدية، أو رقصاتهما على الموسيقى، وثرثرة جديدة عن المدينة التي امتلآت بالزبالة، والتي تبدو مدينة أشباح ليلا، بعد أن ينام الناس، وكأن عواصم العالم لا تبدو على هذه الصورة فى ساعات الليل !


يبدو كما لوأن الفيلم على وشك النهاية على مشهد رقص جنى وآدم احتفالا بالحياة، انفصالا عن جيل الكبار، بعد أن انعدمت وسيلة التواصل، ولكن جنى سرعان ما تنقلب على آدم، وتضربه وتتركه، ولا يجد الفيلم وسيلة لشرح هذه الإنقلابات سوى فى عبارة مباشرة تقولها الأم لابنتها، بأن الجميع حيارى وتائهون، كما يترجم إيلي داغر هذا المعنى فى شكل حلم ساذج، يظهر فيه الجميع، بمن فيهم جنى، وسط المياه، محاولين التعلق بأغصان متناثرة على صفحة المياه.


تأرجحت المعالجة بين فشل شخصي لا نعرف أسبابه يخص جنى، و فشل لجيل كامل، لا نعرف أسبابه ايضا، فليس كل مسافر يفشل، بدليل شقيق جنى، الذي نجح فى عمله فى دبي.


رغبة داغر إذن فى إسقاط فشل جنى على جيلها كله، هو أمر لا تحتمله الحكاية، والمعنى الضمني عن متاهة الجميع، وعن الكارثة القادمة، تقوله الصورة، ولكن لا تؤيده الدراما، ولا تدعمه مجرد إشارات ساذجة عن فتاة خلعت ملابسها فى الشارع، ولا فى مدينة نائمة وفارغة لأن الناس نيام ليلا، ولا تفسرها تكشيرة جنى فى معظم مشاهد الفيلم، وإن ابتسمت أخيرا ( شكرا للسماء) عندما التقت بآدم.


هناك حالة من الحزن والعوالم الرمادية والصور المعبرة عن سماء ملبدة بالغيوم وبدخان المصانع، وهناك جنى المسجونة فى إطار الشباك، وفي البلكونات الصغيرة، والنائمة مثل جنين فى بطن أمه، أو السائرة فى شقق باردة خاوية، ولكنك لن تعرف أبدا سر هذا المود العام، فقد تكون مريضة نفسية، أو قد يكون لديها سر غامض، وقد يكون قلقا وجوديا عاما، خاصة أن الفيلم يبدأ بالاستماع فى الراديو الى عرافة تتحدث عن تسونامي كوني.


نسي داغر أن يؤسس لشخصياته، حتى آدم لا نعرف هل يحب جنى فعلا أم يقضي معها أوقاتا لطيفة فقط؟ وكيف يسخر آدم من سفر جنى وفشها بينما نسمعه يتحدث عن سفرهما معا إلى الجنوب ؟ ولماذا ضربت جنى آدم وكأنه السبب فى فشلها ؟
سفر وعودة، وحديث عن سفر جديد، وثرثرة مع سائق تاكسي يريد اعتزال مهنته، ويريد تغيير حياته، دون أن يستطيع!!


ما علاقة ذلك بجنى التي حاولت تغيير حياتها بالسفر إلى باريس، والتي قطعت شوطا فى سبيل ذلك، وكادت تنجح لولا سر غامض لا نعرفه؟


هذه حكاية تريد أن تجعل المشكلة فى اغتراب لا نعرف له سببا، وفى كارثة ليست لها مقدمات، اللهم إلا إذا كان داغر يعتمد على ما نعرفه من معلومات عامة فوضى الحالة اللبنانية.


أما فكرة خلق الحالة العامة على طريقة سينما أنطونيوني العظيم، فلا تتم عبر الصور الخاوية، أو الكادرات الجميلة، كما قد يظن البعض، ولكنها تولد بالاساس على الورق، من خلال رسم دقيق للشخصيات، وعلاقاتها، ودوافعها، ثم تترجم الصور والتكوينات كل ذلك، وإلا أصبحنا أمام صور هائمة فى الفراغ.


لا توجد حالة ومود عام بدون تفاصيل ومنطق، وإلا دخل الفيلم نفسه فى متاهة، وكلما كانت الشخصيات أقل، والبناء غير تقليدي، كان ذلك أدعى الى التأسيس الدرامي، والرسم التفصيلي للشخصيات، وتبرير تحولاتها.


بدون ذلك، لن تنقذك عناصر جيدة مثل التصوير والموسيقى، ولن تؤثر لقطات علوية جميلة لسيارات تجري فى ليل المدينة، ولن يصل إلينا شيء من صور موج البحر المفتوح على عالم الشمال.

أضف تعليق