فيلم «لا» في مدح صائدي الصور والحركة

فيلم «لا»  في مدح صائدي الصور والحركةمحمود عبد الشكور

الرأى25-9-2022 | 10:14

يمكن اعتبار الفيلم الأمريكي " nope" أو " لا " للمخرج وكاتب السيناريو جوران بييل، امتدادا لتجاربه الذكية بتوظيف النوع السينمائي الذي يتعامل معه، لتقديم ما هو أهم من الشكل، والوصول الى ما وراء الحكاية، وهو هنا يصنع تحية مدهشة لعالم الصور والحركة، ولفن السينما بالضرورة، بحيث يمكن القول إن كل عناصر الحدوتة، وكل أدوات عمل فيلم مركب فيه بعض سمات الخيال العلمي والرعب والإثارة والتشويق، قد وظفت لصالح أمر آخر، لأن جوردان من المخرجين الذين لا يشتغلون عند النوع، ولكنهم يكيّفون النوع لصالحهم.

فى قراءة فيلم " لا " يبدو واضحا أن حكاية وجود أطباق طائرة، ومقتل بعض الشخصيات، ليس هو المحور و لا المعنى، ولكنهما فى اصطياد صورة تسجل هذه الكائنات الفضائية، بالضبط كما قام إدوارد مويبريدج بتجربته القديمة المبكرة فى فجر السينما، بتسجيل حركة الحصان أثناء الجري.

ولكن جوردان بييل الذى يذكر الواقعة فى مستهل الفيلم، لا يعنيه مويبريدج، ولكن يعنيه الجوكي، أو قائد الحصان الذى راقبته كاميرات مويبريدج وهو يجري، فيجعل بط لا الفيلم أوجى أوتيس (دانييل كالويا)، وشقيقته إمرالد (كيكى بالمر)، من أحفاد هذا الجوكى قائد الحصان، وكأنه يقدم التحية للسود، ودورهم فى تطوير فن السينما من بدايته، بل إن جوردان يقدم التحية للخيول، فيقسم الفيلم الى أجزاء، يعطى معظمها أسماء لخيول المزرعة التى ورثها أوجى وشقيقته إمرالد، وأسماء الخيول على التوالى هى جوست وكلوفر ولاكي.

ويمكن اعتبار الفيلم أيضا، رغم استلهامه للخيال علمي، أقرب ما يكون إلى فيلم رعاة بقر معاصر، تدور أحداثه فى الصحراء، ويخوض بطله مغامرته بحصان شجاع، والمكان بأكمله مزرعة خيول، وعندما ينتصر أو جى وأخته على الحيوان الفضائى القادم من طبق طائر فوق مزرعتهم، يظهر أو جى وسط الدخان بحصانه مثل راعى البقر فى أفلامه، وفكرة التحدى وصو لا إلى التقاط الصورة، أو القبض على صورة الكائن الفضائي، ليست سوى استعارة حديثة لقبض الشريف فى فيلم الكاوبوى الكلاسيكى على المجرم الذى هدد المدينة، ولكنه مجاز يناسب فكرة الفيلم فى تقديم التحية للسينما وللصورة، ولكل من قاموا بتسجيلها قديما وحديثا. ليست صدفة أن يتم فناء الحيوان الفضائي، مع التقاط صورة له، فكأن القتل هنا يتم بالصورة وبالكاميرا، وليست صدفة أن يكون الهدف هو استغلال الصور ماديا، وليس التخلص فقط من الحيوان الفضائي، لأن البيزنس جزء أساسى من الحلم الأمريكي، وليست صدفة أن تشمل تحية السود برنامج أوبرا وينفري، وأن يكون السلاح الأساسى فى مقاومة الكائن الفضائى هو الكاميرات بأنواعها وبأشكالها، بدائية وحديثة، وليست البنادق والمسدسات، كما فى أفلام رعاة البقر الكلاسيكية.

يعنى كل ذلك أن عناصر اللعبة كلها، وأيقونات الرعب والخيال العلمى والإثارة وأفلام الكاوبوى قد امتزجت معا، لتصنع معنى أكثر عمقا، مع فهم طبيعة كل نوع، والاستفادة منه، ومع الحصول على بناء مشوق، يتابع أو جى وإمرالد فى سعيهما لترك الهامش، كأحفاد لهايوود، الجوكى المنسى للقطات مويبريدج التاريخية، التى كانت علامة فى تأسيس الصورة المتحركة، رحلة الفيلم محاولة لتحقيق بصمتهم الخاصة، بتصوير اللقطة المستحيلة، للحيوان الفضائي، الذى كان سببا فى قتل والدهم فى بداية الفيلم، بل إن رحلة أو جى وإمرالد هى رحلة حلول للتاريخ الشخصي، الذى لا يعرفه أحد، فى الحاضر، وفى فكرة خيالية مستقبلية، بكل ما يعنيه هذا الحلول، من قوة الأحفاد، وبقائهم فى مكانهم، الذى كان يهدده الحيوان الفضائي، لإنهم يتمسكون بالمزرعة، و لا يتركونها، ويحولون الخطر الفضائى الى فرصة، وإلى قصة شجاعة ونجاح.

توجد أيضا حبكة فرعية تصب فى الحبكة المحورية، وأعنى بذلك حكاية صاحب مزرعة خيول مجاورة يدعى ريكى جوب (ستيفن يون)، الذى كان ممث لا وهو طفل، وتعرض فى حلقات مسلسل شهير له، لتجربة مؤلمة، حيث ثار القرد بطل المسلسل، وقتل بعض أبطال المسلسل، والفيلم يربط بين ثورة القرد قديما، وبين ثورة الحيوان الفضائى حديثا على البشر، كما أن الحيوان الفضائى يلتهم ريكى ومشاهدى تجربته، أثناء استدعاء كائنات الفضاء.

لكن الفيلم عموما لا يستغرق فى الأنواع التى يعمل عليها، لدرجة أنك لا يمكن أن تتحدث عن رعب حقيقي، أو عن تأصيل عميق لظاهرة الأطباق الطائرة، كما أن مظهر هذه الأطباق أيضا تقليدى وعادي، وحركة انفتاح فم الحيوان الفضائي، تذكرنا بحركة فتح الغالق الخاص بالكاميرا، أكثر من أى شيء آخر، الحيوان أيضا عين متلصصة، وكاميرا مستعدة للقتل.

جوردان يمس إذن كل نوع بخفة وبساطة، ويأخذ منه فقط ما يحتاجه، وينجح رغم تعقد هذا المزيج فى تقديم فيلم مشوق وناجح، وخصوصا مع اختياره لممثلين جيدين مثل دانييل كالويا، وكيكى بالمر، وستيفن يون، وبراندون بيريا، الذى لعب دور التقنى الذى قام بتركيب الكاميرات الإليكترونية فى المزرعة لتصوير الحيوان الفضائى والطبق الطائر، ومايكل وينكوت الذى قام بدور مصور سينمائى محترف، يدفع حياته ثمنا لتصوير الحيوان الفضائي، ومن عناصر الفيلم المتميزة أيضا موسيقى مايكل آبيلز.

يبدأ الفيلم وأحفاد هايوود يفشلون فى أن يفوزوا بثقة أحد أستديوهات هوليوود، ولكنه ينتهى بانتصار أحفاد هايوود، وبتصوير اللقطات المستحيلة، ويصبح فيلم "لا" نفسه فيلما عن انتصار الصورة والسينما، وتهتف إمرالد تمجيدا لأسرتها السوداء، إنه فيلم عن أسرة هايوود فى مواجهة هوليوود.

وهكذا تكتمل الدائرة، وتسخر البالونة العملاقة، وعليها صورة طفل يبتسم، من الكائنات الفضائية، تدمر الصورة هذا الشر الغبي، مثلما يستعيد الفيلم ذاكرة الجوكى المنسي، الذى لولاه ما قام مويبريدج بالتقاط صور الحصان فى الماضي.

أما عنوان الفيلم "nope" أو " لا " فقد ذكرت فيه تفسيرات كثيرة مثل أنها الحروف الأولى لكلمة " ليس من كوكب الأرض"، وقال جوردان نفسه إن "لا" هى الكلمة التى يتوقعها من متفرجى الفيلم عند مشاهدته، ولكن المعنى الجميل الذى أراه لمعنى العنوان أنه " لا مستحيل" طالما كان هناك بشر أقوياء مثل أوجى وإمرالد، ومثل من عاونوهم، كما أنه " لا صعوبة" فى أن تقول أشياء لا معة حقا، من خلال أنواع مطروقة وعتيقة، فقد فعلها جوردان من قبل فى فيلميه السابقين الهامين "get out" و"us"" ، وها هو يفعلها من جديد فى ""nope. وها هو يثبت مرة أخرى أن الفن فى الفنان، وفى عقله وخياله، وليس فى النوع السينمائى الذى يعمل عليه.

أضف تعليق

تدمير المجتمعات من الداخل

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2