عندما كان العدو واضحًا

تتسارع الأحداث وتتطور الأدوات والأسلحة؛ لكن المعركة لا تتوقف بل تزداد ضراوة، فقد قُدِّر للمنطقة العربية، وفي القلب منها مصر، أن تكون هدف قوى الشر للانقضاض عليها وتوجيه سهامهم إليها.

بعد حرب أكتوبر 1973 اختلف المنهج من المواجهة المباشرة، إلى معارك غير تقليدية وذلك لاستنزاف الدول وخلق حالة من السخط الشعبي على الأنظمة والحكومات واستغلال إخفاق بعض الحكومات فى تحقيق المستهدف، فتكون السهام أشد فتكًا وأكثر تأثيرًا فى الوعي الشعبي.

فبعد أن كان العدو واضحًا، بما يسهل معه عملية شحذ الهمم والاصطفاف لمواجهته، بات الأمر مختلفًا تمامًا بعد أن أصبح العدو غير واضح.

إنها معركة مستمرة لن تتوقف طالما لم تصبح الدول أكثر قوة، فالمجتمع الدولي لا يعترف
إلا بلغة القوة، ولا تستطيع الدول فرض إرادتها ما لم تمتلك القدرة والقوة.

كما أن قوى الشر لن تترك الدول طالما وجدت مساحة لها فى الداخل تنفذ من خلالها.

ونحن نعيش نسمات انتصارات أكتوبر، النصر الذى غير العديد من الاستراتيجيات لدى الدول الكبرى، بل أعاد رسم خريطة القوة، نتوقف عند بعض النقاط المهمة التى كانت نتاج للنصر، فاستمرت المعركة حتى الآن مع اختلاف الحالة سواء التى تعيشها المنطقة أو التى يتحدث عنها البعض عن متغير لدى المواطن (عدم وضوح العدو).

دعونا نتوقف عند ما قاله الرئيس الأسبق محمد أنور السادات رحمه الله خلال لقائه مع المحامين العرب بالقاهرة عام 1977 (المعركة مستمرة سياسيًا كانت أم عسكريًا) وفى لقاء آخر بنفس العام قال (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بالقيم والمثل العليا).

لقد كان الرئيس السادات يتحدث عن استمرار المعركة مع العدو الواضح (إسرائيل) لاسترداد كامل التراب الوطنى المحتل فى 5 يونيو 1967، وانتصرت مصر فى معاركها الثلاث العسكرية، السياسية والقانونية التى فرضت الإرادة المصرية والقرار المصرى بعد أن اعترف العالم بأن مصر تمتلك القدرة والقوة.

فرغم أن أدوات المعركة التقليدية كانت فى طور الإعداد إلا أن أدواتها غير التقليدية من قوى الشر أيضًا كانت تعمل على قدم وساق فى ظل عدم إدراك البعض خطورة ما يحدث من ذلك العدو المتربص بالأوطان بعيدًا عن الأنظار، وإن كان فى الحقيقة أنه يمر أمام أعيننا فهو لا يعمل فى الخفاء، لكننا تجاهلنا ذلك سواء بقصد أو بدون قصد.

وقد عملت تلك الأدوات من قوى الشر ضد المنطقة بعد يونيو 67 وازدادت ضراوة بعد أكتوبر 1973، كما سبقت ذلك من خلال استراتيجية تمت على عدة محاور:

المحور الأول: محاولة تحطيم قيم المجتمعات وتقديم نماذج معلبة لهدم المجتمعات من الداخل وتحويل المجتمعات إلى مسوخ ليست لها هوية وعملت على تلك الاستراتيجية مجموعة من العناصر الثقافية والفنية والإعلامية.

ودون أن تدرك ساهمت بشكل مباشر فى تقطيع أوصال المجتمعات فأصبح التعصب والعنف سمة طبيعية من سمات المجتمعات.

المحور الثاني: تسطيح قيمة الوطن أمام المكتسبات الشخصية وتقديم المبررات لذلك حتى يخرج جيل من الشباب لا يؤمن بالأوطان بقدر إيمانه بالمكتسبات الشخصية مهما كلفه ذلك من تنازلات.

المحور الثالث: استغلال الحالة الروحية للشعوب للتسلل إليهم وتقديم مفاهيم مغلوطة وتغذية جماعات العنف الدينى لإحداث حالة انقسام داخل المجتمعات والنيل من وحدتها وتماسكها؛ بل تم تغذية ذلك من خلال تقسم تلك التنظيمات إلى جماعات وفرق تتقطع معها أوصال المجتمع وتغرقه فى دوامة العنف الداخلى ليتم تدمير المجتمعات من الداخل.

بدأت التنظيمات الداعية باسم الدين تتحرك باتجاه حمل السلاح بمباركة القوى الدولية لاستخدامها فى الوقت المناسب، وهو ما حدث مع الجماعات الدينية من المتطرفين.

المحور الرابع: تحويل العناصر العادية من الأفراد إلى أسلحة تقوم بدور فى المعركة دون أن تدرى أنها مستخدمة فى إدارة المعركة مستغلة حالة ضعف الوعى لديهم فى نشر الشائعات التى أعدت باحترافية شديدة، للتشكيك فى كل ما هو إيجابى ولترويج كل ما هو سلبى مع تضخيمه والبعد عن الموضوعية، وتكون القوى الناعمة فى ذلك المضمار هى الأكثر شراسة وتدميرًا لضرب الثقة بين المواطن والنظام مما يصنع حاجزًا نفسيًّا بينهما وتزداد هوة عدم الثقة؛ عندها تدخل عناصر قوى الشر بقوة للتأثير فى تلك المعركة، الأمر الذى جعل الجهل من أخطر أعداء الأوطان.

أصبح العدو غير واضح، بل ازداد غموضًا عندما تطورت الأدوات (أدوات التواصل) وأصبحت عملية تأهيل العناصر للقيام بأعمال عنف عن بعد أكثر سهولة، لتتحول تلك العناصر المسيرة عن بعد أكثر فتكًا بأمن واستقرار المجتمعات، وأصبح تفجير المجتمعات من الداخل أكثر سهولة، بعد أن مُهِّد له الطريق (غياب القيم، ضرب الولاء والانتماء للوطن، تقديم مزيد من المحفزات والمغريات).

كما سُطِّح أى حديث عما تقوم به قوى الشر بدعوى أن المؤامرة غير موجودة، ليأتى نتيجة ما تم زرعه ورعايته من مفاهيم مغلوطة على مدى سنوات، عندها تفقد الشعوب إيمانها بأوطانها أو التضحية من أجلها واعتبار المعركة غير موجودة، ومعها يضعف الاستعداد لمواجهة العدو.

لكن الأمر مختلف تمامًا عندما يكون العدو واضحًا، فالشعوب تلتف حول قيادتها وتتحمل مسؤوليتها لتحقق الهدف المنشود وهو الانتصار والدفاع عن الوطن ضد أى محاولة للنيل منه، مهما كلفها ذلك من تبعات ومهما تحملت وواجهت من صعوبات.

فعندما كان العدو واضحًا استطاع الشعب المصرى أن يسطر ملاحم بطولية ويتحمل مسؤوليته كاملة من آثار المعركة، فقدم أبناؤه فى الصفوف الأولى بميدان المعركة، وأمَّن الجبهة الداخلية، وكانت السنوات الستة ما بعد يونيو 67 وحتى أكتوبر 73 من أصعب المراحل إلا أن وضوح العدو جعل الشعب يتحمل مسؤوليته ويقوم بدوره فى مساندة قواته المسلحة فى معركة من أعظم معارك العصر الحديث.

ومع مواصلة الدولة المصرية طريقها لتحقيق التحرير الكامل لترابها الوطنى بعملية سياسية، بدأت بعض القوى محاولة تشويه تلك المعركة التى لم تقل شراسة وقوة عن معركة السادس من أكتوبر 73.

وعقب توقيع اتفاقية السلام كان العدو المُعدٌّ من قوى الشر والمتدثر بعباءة الشعب يتحرك فقام باغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، لتظهر تلك الجماعات بصورتها الحقيقية التى تدربت عليها (العنف) بعد حملها للسلاح فى أفغانستان، ولتصبح بمثابة قنابل يمسك بزمام مفتاح تفجيرها من يقوم بالتمويل والدعم المادى واللوجيستى وفق التوقيتات المحددة لضمان زعزعة استقرار الدولة، وإبعادها عن الطريق الصحيح لها (التنمية).

فى ظل دولة مستنزفة اقتصاديًا بسبب الإعداد والتجهيز للحرب ودخول معركة بكل تلك القوة، ثم تدخل مرحلة من أهم مراحل تاريخها، فعلى مدى 15 عامًا منذ 67 وحتى 1982.

لكن قوى الشر لم تتوقف عند هذا الحد فواصلت تحركها من أجل اقتناص أى فرصة للانقضاض على الأوطان، ولم يكن ما حدث فى 2011 ببعيد عن عمليات الإعداد للعناصر بالمنطقة فى 2002، ثم شهدت أكبر عملية تطور عام 2005 أى قبل التحرك بتسع سنوات مستغلة الحالة الرخوة للدول.

وما إن نجحت عناصر قوى الشر فى إسقاط بعض المؤسسات بدعوى حرية التعبير والديمقراطية، وبدأت الانقضاض السريع عليها حتى أدركت الشعوب خطورة ما يحدث.

ففى مصر سرعان ما تحرك الشعب لرفض تلك المحاولة الخبيثة واسترد وطنه وبدأ أكبر عملية مواجهة بالخروج فى 30 يونيو 2013 وبدأ أكبر عملية إعادة بناء للوطن وأدرك المواطن خطورة أدوات المعركة الحديثة التى تدور رحاها لتغيير خريطة المنطقة، فى الوقت الذى سقطت فيه دول أخرى بالمستنقع (الفوضى) ولم تستطع الفكاك منه حتى الآن.

إلا أن العدو ما زال يواصل إطلاق سهامه باتجاه الدول التى نجحت فى مواجهة المخطط وانتصرت فى المراحل الأولى للمعركة، خاصة مصر.

لكن المعركة لم تنته وتواصل قوى الشر تطوير أدواتها مستخدمة الإعلام لنشر الشائعات والتشكيك فى قدرة الدولة على عبور التحديات ومواجهة الأزمات العالمية، والتشكيك فيما نجح فيه الوطن من إنجاز.

ورغم شهادة المؤسسات العالمية للدولة المصرية بما حققته من إنجاز ونجاحها فى مواجهة المشكلات وعبور الأزمات بفضل قوة وصلابة الشعب وتحمله للمسؤولية وإدارة الأزمات باحترافية من قبل النظام، إلا أن العدو ما زال يستهدف وعى المجتمع بسهامه المسمومة، وهو ما يوجب علينا (الإعلام) - القوى الناعمة للدولة - أن تتحرك فى كشف هؤلاء حتى لا يسقط البعض فريسة لذلك الفكر المسموم المدمر للأوطان.

إنها معركة أكثر ضراوة من معركة السادس من أكتوبر، فالعدو فيها غير واضح والشعوب شهدت متغيرات قيمية ومجتمعية جعلت المواجهة على أكثر من جبهة، وباتت الأوضاع أكثر صعوبة.

إن اصطفاف الشعوب حول أوطانها وتغييب المصالح الفردية أمام مصلحة الوطن والعمل المتواصل لعبور المراحل الصعبة، ووعى الشعوب بخطورة سقوط الدول من الداخل يجعل الشعوب أكثر قدرة على الانتصار فى المعركة والحفاظ على أوطانهم.

.. وتتوالى حكايات الأبطال!

إنه البطل «سمير خليل سرجيوس» أحد أبطال الدفاع الجوي الذي سطر العديد من البطولات قبل استشهاده فى أكتوبر 73؛ فقبل إيقاف نيران حرب الاستنزاف بحوالي شهر تقريبًا، اشترك البطل فى تنفيذ كمائن الدفاع الجوي التي أسفرت عن إسقاط وتدمير أكثر من 15 طائرة للعدو بين ميراج وسكاى هوك وفى تلك الفترة من 30 يونيو إلى 6 يوليو 1970.

أما فى حرب أكتوبر، فكان البطل ضمن قوات الدفاع الجوي التي كانت تعمل فى نطاق عمل الجيش الثالث الميداني، وكان يشغل منصب نائب قائد أحد ألوية الدفاع جوي حيث تمكنت وحدات اللواء من إسقاط وتدمير العديد من الطائرات الإسرائيلية التي كانت تحاول قصف المعابر على القناة.

وخلال إدارة المعارك حول مدينة السويس ركزت قوات العدو الجوية قصفها ضد المدينة تمهيدًا لاقتحامها بالقوات البرية المتسللة إلى الغرب، ولكن تصدى لها البطل بإنشاء سد منيع لنيران الدفاع الجوي حول مدينة السويس وأوقعت قواته خسائر كبيرة فى الطيران المعادي قبل أن يسقط شهيدًا فى هذه الملحمة يوم الثالث والعشرين من أكتوبر 1973.

أضف تعليق