قد يظن القارئ الكريم مع الوهلة الأولى من قراءته لعنوان المقال، أننا سنتحدث عن العاصمة الإدارية وعن مميزاتها، وكيف نشأت، وغيرها من الكلمات والتعبيرات، كما لو كنا نسوق لها كما هو الحال لبعض السلع على السوشيال ميديا وعلى برامج التوك شو. ولكن الأمر على العكس تمامًا، ما سنقوم به هنا هو عقد مقارنة بسيط بين ما يسمى بـ"اليوتوبيا" أو بمعناها المعروف "المدينة الفاضلة"، وبين ما أُسس وبُنى في بلادنا الحبيبة وشيد بسواعد أبنائها، ونقصد هنا أي مشروع سواء كان "العاصمة الإدارية"، أو المشروعات الأخرى التي تطمح وتأمل لرفع المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للفرد، بهدف الوصول لِمَا يُطلق عليه الآن "الجمهورية الجديدة". وقبل الخوض في حديثنا، علينا أن نُعرف القُراء الأعزاء ما يُقصد بـ"اليوتوبيا"، إلا أن السؤال الذي يلح علينا الآن هو، هل يوجد علاقة بين "اليوتوبيا" أو "المدينة الفاضلة" وبين ما نشهده في بلادنا من طفره على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
عزيزي القارئ كلمة "يوتوبيا"، ويعرف هذا المصطلح أيضًا بـ "الطوباوية"؛ هي في الأصل لفظ يوناني قديم οὐ τόπος، وتعني "لا مكان" أو مالا يوجد في أي مكان أي المكان المتخيل. ويرجع استعمال لفظ "اليوتوبيا" Utopia لأول مرة لـ"توماس مور" 1478 – 1535م بعد أن جعله عنونًا لكتابه "أفضل نظام اجتماعي" صور فيه دولة مثلى تحقق السعادة للناس، وهي دولة فاضلة مثالية تدفع الشرور عن الناس.
وأصبحت فيما بعد هذه الكلمة أو المصطلح وصفًا لكل كتاب يتناول هذا المبحث، ولعل أشهر هذه الكتب، كتاب "جمهورية أفلاطون" قدم لنا هذا الكتاب أقدم فكرة عن اليوتوبيا – وكتاب "مدينة الله" للقديس أوغسطين، وكتاب "مدينة الشمس" لـكامبانللا و"أطلنطس الجديد" لبيكون و"آراء أهل المدينة الفاضلة" للفارابي و"يوطوبيا حديثة" لـ ولز.
وقد أورد بعضهم أن "اليوتوبيا" من مدلولاتها الجنة التي يُبشر بها الفلاسفة، لا الجنة التي تبشر بها الكتب السماوية؛ أي وضعوها في مقابل "جنة عدن" على تعبير الكتب السماوية، أو "الفردوس". والجنة بألفاظ أخرى موجودة في موروث الشعوب في آسيا من الفرس والفينيقيين، والبابليين، والكلدان.
أضف إلى ذلك عزيزي القارئ أن "الطوباوية" فكر نقدي وإبداعي يتنبأ بعوالم اجتماعية بديلة تحقق أفضل سبل الوجود، مؤسس على مبادئ عقلانية وأخلاقية، تفسر الطبيعة البشرية والتاريخ، أو إمكانات تقنية متخيلة. بمعنى أن التفكير الطوباوي يروم التغلب على: الاجحاف الاجتماعي، والاستغلال الاقتصادي، والاضطهاد الجنسي، وسائر أشكال الهيمنة الممكنة التي تحول دون الرفاهية والسعادة في هذا العالم.
هذا عن المفهوم الدلالي أو الاصطلاحي لكلمة "يوتوبيا"، ننتقل الآن إلى تساؤلنا الذي آثرناه في بداية المقال، هل يوجد علاقة بين "اليوتوبيا" أو "المدينة الفاضلة" وبين ما نشهده في بلادنا من طفره على كافة الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
بالتأكيد عزيزي القارئ يوجد علاقة بين ما يُقصد ب اليوتوبيا بالمعنى السابق، وبين ما نحن عليه الآن في بلادنا الحبيبة وبين ما سنشهده لاحقًا من تطوير نلمس ثماره ونستشعر طيفه. إذا كانت "اليوتوبيا" بمعناها السابق ظلت حبيسة العقول، ولم تخرج إلى حيز التنفيذ ولم تظهر على أرض الواقع في الأزمنة السابقة، رغم جميع محاولات المفكرين والساسة، ولكن الآن ونحن على مشارف سنة 2023م نلمس وبوضح المعنى الحقيقي لها، ونشهد قيامها، والسؤال الذي يطرأ علينا الآن، هل ستحتاج هذه "اليوتوبيا" أو "الجمهورية الجديدة" لدعائم وأُسس تُبنى من خلالها؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستجعلنا نستعين خلال حديثنا اولاً بكلمات الرئيس التي قالها في بعض المحافل والمؤتمرات، وايضًا بدراستنا تخصصا في هذا الشأن، الدراسة الأولى للدكتور محمود محمد علي، وعنوانها "فلسفة الجمهورية الجديدة"، أما الثانية وهي صادرة عن المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، وعنوانها "الجمهورية الجديدة: فلسفة التنمية المصرية".
أكد الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال كلمته في الاحتفال بذكري ثورة 23 يوليو، وهو ما تناقلته لنا وسائل الاعلام المختلفة "أنها جمهورية تؤسس نسقًا فكريًا واجتماعيًا وإنسانيًا شاملًا، وبناء إنسان ومجتمع متطـور، تسوده قيم إنسانية رفيعة ورغم تعاظم الظروف المعاكسة، التي تسبب فيها العديد من الأحداث والتطورات الدولية، غير المواتية". واستكمل حديثه قائلا: "إنني على يقين، من قوة عزيمتنا معًا، في الاستمرار بخطى ثابتة وواثقة، في الطريق الذي اخترناه جميعًا، من أجل الانطلاق إلى الجمهورية الجديدة، جمهورية التنمية والبناء والتطوير، وتغيير الواقع".
كما أكد الرئيس خلال كلمته في "المؤتمر الأول لمشروع حياة كريمة" قائلاً: "إنني أجدد معكم العهد وأصدقكم الوعد بأن نبدأ جمهوريتنا الجديدة المولودة من رحم ثورتكم العظيمة في ٣٠ يونيو عازمين على المضي قدمًا نحو المزيد من العمل والبناء ممتلكين القدرة الشاملة مستمرين في تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية داعمين المزيد من المساحات المشتركة بين أبناء الوطن موفرين كافة السبل لشبابنا لتحقيق مستقبل يليق بهم في وطنهم العظيم". واستطرد حديثه قائلاً: "كما أنني أود أن أعبر عن عظيم امتناني للشعب المصري العظيم على كل ما بذله من جهود وما قدمه من تضحيات لنقف اليوم آمنين مطمئنين سعيًا للبناء والتطوير والتنمية".
ورصد لنا المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في دراسته "الجمهورية الجديدة: فلسفة التنمية المصرية". أن مصر تخطو بخطوات عازمة صوب تدشين عقد اجتماعي جديد منذ ثورة 30 يونيو 2013م، إذ تتمثل ملامح هذا العقد في معالجة أخطاء الماضي، والعمل وفق آلية وتخطيط استراتيجي يضع في اعتباراته العديد من المحددات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمل بالتوازي معها. وبالتالي، فإن هذا العقد يأخذ في طياته مقاربة شاملة للعمل متعدد الاتجاهات، والدفع فيها بصورة لا تخُلّ بأي منها. في هذا السياق، يمثل مفهوم الجمهورية الجديدة الإطار الشامل والفلسفة العامة للدولة المصرية، المنطلقة من عدد من المفاهيم والمبادئ العامة، والمستندة إلى مبدأين أساسيين هما:
أولاً، أن التنمية الاقتصادية الاجتماعية ستعمل بمثابة الشروط المسبقة والداعمة لتطوير التنمية السياسية والتي تمثل أساس تثبيت واستقرار الدولة ومؤسساتها واستدامة اللُّ الاجتماعية، هذا بالإضافة إلى العمل على تشبيك جميع الأبعاد بحيث يخدم كل محور أهداف المحاور الأخرى لتحقيق أكبر قدر من التكامل بين الخطط التنموية للدولة والمجتمع.
ثانيًا: في إطار الإعلان عن إطلاق مصر للجمهورية الثانية، تمثل حقوق الإنسان بمفهومها الشامل أساسًا لتلك الجمهورية ومنطقًا لها؛ وذلك من حيث وضع المعايير والمحددات والحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والتنمية المستدامة والأبعاد الأخرى التي تضمنها الجيل ثالث من حقوق الإنسان لتعمل وفقها المؤسسات وتمثل هدفًا أمام عمل أي مشروع في المجتمع، وبالتالي لا تعد حقوق الإنسان ملفًا منفصلً عن أي من الجهود التي تقوم بها الدولة والمجتمع وإنمًا منطقًا لها، فضالً عن تحقيق عدد من الشروط التنموية المسبقة بما يسهم في ضمان الاستقرار السياسي ووجود هياكل وبنى اجتماعية تضمن ممارسة الآليات الديمقراطية بصورة أكثر استدامة وتتحاشى أيًا من مظاهر الخلل التي ظهرت في المجتمعات على مستوى العالم عقب تفشي وباء فيروس كورونا.
كما خرجت لنا الدراسة التي انجزها الدكتور محمود أحمد علي، وعنوانها "فلسفة الجمهورية الجديدة"، إن مفهوم الجمهورية الجديدة ليس شعارًا يعبر عن تغيير نظام الحكم أو شكل الوضع السياسي، وذلك كما استخدم المصطلح في العديد من الدول بعد تغيرات سياسية أعادت تشكيل المشهد السياسي بتلك الدول.. حيث إن فلسفة الجمهورية المصرية الجديدة تختلف بشكل كامل في أبعادها وأركانها، الأمر الذي يعبر عن شكل جديد للدولة المصرية، وذلك بعد ثورة 30 يونيو المجيدة، بما يتوافق مع إمكانياتها ورؤيتها الاستراتيجية، للواقع والمستقبل.
وتحمل الجمهورية الجديدة ثلاثة أبعاد مهمة، فيأتي البعد الأول للجمهورية الجديدة وهو "عاصمة جديدة" متمثلاً في "الإزاحة المكانية" إلى شرق مدينة القاهرة، ولكن تلك الإزاحة المكانية تحمل معنى رمزيًا يتكرر مدلوله في بقية أبعاد الجمهورية الجديدة، لكنها لا تظل إزاحة مكانية فقط، بل تتخطى حدود ذلك إلى "الإزاحة الرمزية". ف الجمهورية الجديدة تحمل تغييرًا كبيرًا في كافة أبعادها المتعددة.
وأما البعد الثاني للجمهورية يتمثل في "الفكر الجديد" حيث تميز عهد الجمهورية الجديدة بإزاحة جامعة ظلامية ظلت جاثمة على صدور المصريين وتفكيرهم لعدة عقود، وتركت ربما "عقدة مقتل النقراشي" لدى العهود السياسية المتتالية التي هادنت الجماعة عمدًا أو تخوفًا، فكرست الجمهورية الجديدة للعلمانية بمفهومها الصحيح، ومنع استغلال الدين في العمل السياسي بدون خطابات أتاتوركية مغالية، وفي نفس الوقت حفظت للدين أهميته، ومكانته التي طالما شغلها في نفوس وحياة المصريين، ولذلك كان وجود مسجد الفتاح العليم، وكاتدرائية ميلاد المسيح في موقعيهما بالعاصمة الإدارية الجديدة.
وفيما يخص البعد الثالث للجمهورية الجديدة فيظهر في "الإنجازات الجديدة" فقد اعتاد المواطنون فيما مضى على رؤية الرؤساء على فترات متباعدة أثناء افتتاح مشاريع جديدة، لكن ظهور الرئيس لافتتاح مصانع، ومشاريع جديدة أصبح متكررًا، وامرًا اعتياديًا في الجمهورية الجديدة لم يعهده المواطنون من قبل.
وقد جاءت الجمهورية الجديدة لمواكبة تحديات العصر، ومواجهة حروب الجيل الرابع والخامس، وأخطر ما في هذه الحروب كما يقول مصطفى حمزة في مقاله (الجمهورية الجديدة.. ما هي وكيف ولماذا؟) "أن الدول تستخدمها لاحتلال العقول بدلاً من الأوطان، ثم تتحكم في هذه العقول بالطريقة التي تخدم مصالحها، وهو ما يتطلب استحداث مدن ذكية تتنبأ بهذه الحروب وتتحكم فيها، ف الجمهورية الجديدة ليست رد فعل لأحداث تدور من حولها، وإنما هي من تصنع الاحداث وتكون فاعلاً أساسيًا فيها".
وفي الختام، لقد وضع الرئيس عبد الفتاح السيسي ميثاقًا وطنيًا لتدشين الجمهورية الجديدة على أسس قوامها المصارحة والمشاركة السياسية الجادة ودعم الاقتصاد الوطني الهادف والتأكيد على ثوابت الدولة المصرية بعمقها الاستراتيجي العربي. الجمهورية الجديدة، هي جمهورية الحلم والأمل والعلم والعمل، وهي الجمهورية القادرة وليست الغاشمة، المسالمة وليست المستسلمة وتتسع للجميع.
كما تستند الجمهورية الجديدة إلى مفهوم بناء الإنسان بهدف التغيير في أوضاع المعيشة والحياة، لتعزيز دوره كمواطن قويم يقوم بواجباته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في ظل التطلع للتغيير في الأفكار والسلوكيات ونظم الإدارة وسبل الحياة.
وليكن في عَلِمْنَا أنه ما بقي من إصلاح سيحدث لا محاله، ولكنه لن يحدث بدون الأمل والعلم، فهما الوجهان لعملة واحدة، هذه العملة هي العمل. فعلينا بالعمل والاجتهاد لرفعة هذا الوطن، وألا ننصت للدعاوي الهدامة والتخريبية، وأن نعلم ايضًا أنه لن يُغير ما نحن عليه سوى أبناء هذا الوطن المخلصين المؤمنين ببلادنا، وليس التابعين، وليكن سلاحنا في معركتنا هو الدين الحق، والعزيمة المثابرة.