أجمل ما في الفيلم المصري "19 ب"، من تأليف وإخراج أحمد عبد الله السيد، والذي اشترك في المسابقة الدولية لـ مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الرابعة والأربعين، والحاصل على جائزة أفضل فيلم عربي في المهرجان، أنه يبدأ من حكاية بسيطة للغاية، لا تزيد على صراع بين حارس بيت قديم مهجور تركه أصحابه وورثته وهاجروا من مصر، وبين سائس يركن السيارات في نفس الشارع، ويتطور الأمر إلى صدام حتمي عنيف، ولكن هذا الصراع والصدام يبدو متعدد الدلالات والمستويات.
يمكن مثلا قراءته بأن هناك منطقة آمنة لكل إنسان مهما كان بسيطا، لا يمكن تجاوزها دون انفجار، مهما كان الشخص مسالما، ومهما كان الفرد صبورا، ويمكن قراءة الفيلم بأكمله باعتباره صراعا بين جيلين، يفتقدان التواصل، والحلول الوسط، واللغة المشتركة، ويمثلان زمنين منقطعين عن بعضهما، وبالتالى يبدو صدامهما لا مفر منه.
ويمكن أن يقرأ الفيلم كذلك بمنطق ضرورة الدفاع عن الأمانة والمكان والأرض، فى مواجهة الغريب المحتل، حتى لو وصل الأمر إلى حدوده القصوى، وهو مجاز تحتمله دلالات الموقف الدرامى المحورى فى الأحداث، ومن هنا يمكن إسقاطها على ما شئنا من مواقف سياسية، تتجاوز الأفراد إلى الدول والشعوب.
لا يعنى ذلك أن مؤلف الفيلم ومخرجه قصد كل هذه الدلالات والتأويلات والمجازات، ولكن يعنى أنه نجح فى أن يسير خلف إمكانات موقف درامى بسيط، محدد المكان والزمان، ويخرج به إلى معان ثرية مفتوحة، وهذا أفضل ما يمكن أن يتم تحقيقه فى كتابة سينمائية أو درامية أو روائية عموما.
فالحفر وراء شخصية غريبة، مثل شخصية حارس عقار مهجور فى مصر، يعيش وحيدا مع الكلاب والقطط فى المكان، ثم إضافة شخصية سائس للحكاية، وتطوير المعالجة بتفاعل الطرفين، أو بمعنى أدق بصراعهما المكبوب والمعلن، كل ذلك هو عنوان الكتابة الجيدة، مع الاعتماد على تفصيلات كثيرة، واستغلال إمكانيات المكان، وهو بصفة أساسية الفيلا المهجورة، بحجراتها وحديقتها وممراتها ومبناها العتيق، والبناء تدريجيا وبدأب للصراع، بحيث يضيف كل مشهد ما يرسم معالم صورة الحارس وحياته، بدون زيادة أو نقصان، اعتمادا على لغة الصورة فى معظم الأحيان، وعلى حوار مكثف مفيد بلا ثرثرة، إذا احتاج الأمر ذلك.
هناك شىء آخر فى هذا السرد المتدفق، هو أنه يترك مساحات مخفية وراء ذلك الصراع الظاهرى بين حارس العقار (سيد رجب)، والسائس (أحمد خالد صالح)، إنها أشياء متروكة عمدا ليكملها المتفرج لو أراد، أو لكى تشكل سؤالا يشغله ويؤرقه على أقل تقدير.
نحن لن نعرف أبدا مثلا لماذا هاجر أهل الفيلا؟ ولماذا رفض الورثة أن يعودوا أن يهتموا ببيع الفيلا؟ هذه نقطة تركت مفتوحة، وكأن أصحاب الفيلا نجوا بأنفسهم من كارثة أو هربوا من لعنة البقاء، ورغم ثرائهم، وسهولة التواصل مع من يوصلهم إلى فيلتهم، إلا أنهم لم يسألوا، ويبدو أنهم باعوا الماضى تماما، بإسقاطه من الذاكرة، بينما لم يستطع الحارس أن يبيع الماضى، فهو يسمع أغنيات قديمة، ويرى فى الحيوانات سعادة بديلة، ولا ينسى أن ابنته يارا (ناهد السباعي) ولدت فى الفيلا، إنها مكانه وملجأه ومساحته الآمنة، وهو يجبر على أن يستضيف بضائع السائس نصر المشبوهة، ولكنه يتحايل طوال الوقت لإخراج البضائع، ولإخراج هذا الشاب ذى الماضى المريب، الذى يقتحم المكان، ويقيم فيه.
لولا الهجرة غير المفسرة ما كان الفيلم، وستكون هناك علامات استفهام متروكة أيضا كلما تقدمنا فى الأحداث، مثل والدة الجارة، وتلعب دورها منحة البطراوى، والتى تتبادل نظرات ذات مغزى مع حارس العقار، دون أن يفسر الفيلم ذلك، تاركا تخمينات كثيرة، كلها تؤكد انتماء والدة الجارة والحارس إلى زمن غارب، وذكريات مشتركة، ثم يترك الفيلم عمدا للمشاهد تفسير مشهد النهاية الأخير، بعد الصدام بين الحارس والسائس، مختتما أحداثه بنفس أغنية البداية، وهى "فى قلبى غرام" لعبد المطلب، وكأنها رسول الماضي، الذى وجد من يدافع عنه، حتى لو كان هذا الماضى مجرد أطلال مكان.
ليس هذا المعنى حول فيلا مهجورة فى مصر الجديدة، منفصلا عن فيلم "هليوبلوليس" أول أفلام أحمد عبد الله السيد، الذى كان يؤرخ لهدم وتغيير معالم الماضى عموما، ومعمار مصر الجديدة على وجه الخصوص، لكن الطرف الآخر فى الصراع فى "19 ب"، وهو السائس نصر، لم يقدم بصورة نمطية وتقليدية، لأنه أيضا نموذج إنسانى من لحم ودم، يدافع عن ظروفه وعن منطقه، فهو نازح من المنيا، ولاجيء فى العاصمة، وهو يرى نفسه مظلوما، دفع الثمن فى السجن بدون ذنب، وهو ينتزع اللقمة فى المدينة بالذراع، ويحصل على المال من الشارع، وبكثير من الشطارة والفهلوة، وهو يتقبل أن تصفعه يارا دفاعا عن والدها، وهذه العلاقة ببن نصر ويارا تركت أيضا مخفية، وكأن الحكاية كلها لها فصول سابقة، كانت ذروتها المواجهة، بسبب احتلال نصر ورجاله للفيلا، واكتشاف الحارس بأنه يدافع عن بيت تركه أصحابه نهائيا، حتى راتبه كان يدفعه محامى الأسرة المهاجرة (صبرى عبد المنعم).
المحامى العجوز نفسه، بهيئته وعصاه التى يستند إليها، واضح الدلالة على ماض ينسحب، وعلى الحارس أن يدافع عن نفسه ومكانه وأغانيه وحيواناته، وإلا فلن يدافع عنه أحد.
أطلال فيلا فى مصر الجديدة أم أطلال ذاكرة وحياة ترفض أن تدفن قبل أن يأتى أوانها؟ هنا تنفتح الحكاية على تفسيرات شتى كلها ممكنة، وهنا تبدو التفصيلات ضرورية من الحجر العملاق الذى يضعه الحارس أمام الفيلا حتى لا تركن أمامه سيارت نصر، إلى القطط والكلاب التى تأكل بدعم وتعاطف من الجارة، وصولا إلى معرفة الحارس وحده طريقة توصيل أسلاك الكهرباء، وكلها تعطينا معنى الامتلاك المجازى للمكان.
التناقض واضح حتى فى ملابس الحارس التى تنتمى إلى زمن آخر، وكذلك أشرطة وجهاز التسجيل، بينما تضفى أشعة الشمس، والإضاءة الطبيعية الصباحية على الحارس مظهرا رومانتيكيا، يتناقض مع ضجيج نصر، ومع عالم الشارع الواقعي.
ويترجم التناقض ببراعة وجه سيد رجب الطيب، وجسده الهزيل والعجوز، ومشيته المتعثرة، ونظراته الحذرة، وصوته المنخفض باستثناء مشاهد ثورته وغضبه، مقارنة بمظهر أحمد خالد صالح العنيف، وبنيانه القوي، وملابسه الرياضية، ومشيته الاستعراضية، وصوته المرتفع، والاثنان (سيد وأحمد) فى أفضل حالاتهما، وأحمد خالد صالح بالذات مفاجأة حقيقية، لأنه يقف بجدارة وقوة أمام حضور وحرفية سيد رجب المعروفة.
فإذا أضفت إلى ذلك تميز عناصر كثيرة كالتصوير (حصل عنه مصطفى الكاشف على جائزة أفضل إسهام فنى فى المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة)، والموسيقى (يوسف صادق)، والملابس (ناهد نصر الله)، فإننا نكون بذلك أمام عمل هام شكلا ومضمونا، يشهد على زمنه وشخصياته، ويجعل تاريخ الحارس هو تاريخ الفيلا، وتاريخ السائس هو تاريخ الشارع.
وبينما تحول التاريخ إلى ركام وأطلال، لا يسأل عنهما أحد، تحول الشارع إلى غابة يمتلكها الأقوى.
لعل هذه المفارقة هى أصل الصراع، والعنوان الحقيقى لحكاية الرجلين، من مصر القديمة، إلى مصرالجديدة.