مشكلة الساعة: إصلاح العقول البور!

مشكلة الساعة: إصلاح العقول البور!محو الامية

كنوز أكتوبر5-1-2023 | 20:39

محو الأمية أو استصلاح العقول البور من أخطر المشاكل التى تواجه المجتمع المصرى.. قال عنها وزير التعليم إن جذورها تمتد إلى 24 سنة مع أول وزارة بعد دستور 23، وقال رئيس مجلس الشعب إنها أخذت تنتقل من عهد إلى عهد ومن وزارة إلى وزارة حتى أصبحت ورقة استغلتها الأحزاب دون محاولة لحلها.. واليوم علت الأصوات بضرورة القضاء عليها ولو بإنشاء وزارة خاصة لها تنتهى بانتهائها مثل وزارة السد العالى، أو إغلاق الجامعات لمدة عام حتى يشارك جميع الطلاب فيها.. حول الأمية كمشكلة وحول أسبابها وجذورها وطرق القضاء عليها.. كأن هذا التحقيق.

إذا كانت مصر قد مرت خلال تاريخها الطويل بظروف صعبة أثرت، ومازالت تؤثر فى حركة التعليم فيها.. مثل مقاومة الاحتلال والرجعية للتعليم (قبل الثورة) والحروب التى خاضتها وما زالت تخوضها دفاعا عن وجودها العربى فى هذه المنطقة الحساسة من العالم، وزيادة النسل زيادة كبيرة.. فإن ذلك لم يجعلها تهمل قضايا التعليم و محو الأمية عن الإطلاق.. فمنذ عام 1924 حتى الآن صدرت ثلاثة قوانين تنظيم التعليم، كما ازداد عدد المدارس الإبتدائية.. حتى وصلت سنة 1972 إلى 8838 مدرسة وتضاعفت الميزانيات الخاصة بالتعليم.. ومع ذلك فإن عدد الأميين ما زال فى ارتفاع مستمر.

أرقام وإحصائيات

فى بداية سنة 1976 أصدر الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء.. إحصاء تقديريا عن الأمية فى أعوام 73، 74، 1975 وجاء فى هذا الإحصاء أن نسبة الأمية بلغت 76% وأن هذا الرقم مرتفع نتيجة لارتفاع نسبة الأميات من الإناث، إذ تبلغ نسبتهن 81% من مجموع الإناث.

ولكن وزارة التربية والتعليم والمجلس الأعلى لتعليم الكبار لا يعترفان بهذه الإحصائية.. لعدة أسباب:

أولا: لأنها إحصائية تقديرية وليست إحصائية دقيقة.

ثانيا: لأن الوزارة وأجهزتها تعمل منذ فبراير 1971 على تطبيق القانون 76 لسنة 1970، والذى ينص على تعليم الأميين من سن 8 إلى سن 45، وبناء على ذلك تم فتح فصول محو الأمية فى المحافظات، ووصل عدد الفصول التى افتتحت حتى عام 1976 إلى 7579 فصلا.
ثالثا: لأن هذا الإحصاء نشر إجماليا ولم يأت بالتفاصيل التى يستفاد منها فى توزيع الفصول المقررة على المدن والقرى، وإذا كانت هذه النسبة المئوية مبالغا فيها.. فلا شك أن عدد الأميين ما زال فى ارتفاع مستمر وما زلنا حتى الآن فى انتظار إحصائية الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء.. التى يعددها الآن وتصدر خلال الشهر القادم.
وللأمية فى مصر مصدران رئيسيان.. أولهما: الأميون الكبار الذين فاتتهم فرصة التعليم فى الماضى، ولم يجدوا الحافز أو الدافع للعودة إلى التعليم مرة أخرى وثانيهما: تلك الأعداد الكبيرة من الأطفال فى سن الإلزام، والذين لم تستوعبهم إمكانيات التعليم الإبتدائى، ويشكلون عبئا مستمرا ومعينا لا ينضب.. يساعد على ارتفاع أرقام الأميين كل عام بنسبة كبيرة.

ولنحاول الآن أن نتتبع المشكلة من أساسها، ولنعد إلى الوراء حيث صدر أول قانون للتعليم فى مصر.

قوانين.. ولكن معطلة..

خاض التعليم فى مصر سلسلة طويلة من التجارب تخللتها مجموعة من القوانين المنظمة له.. فكان أولها قانون التعليم الإلزامى الذى ثدر سنة 1924، ثم تلاه قانون محو الأمية رقم 110 لسنة 1944 والذى نص على تعليم الكبار ومحو أميتهم.. وبرغم صدور كل هذه القوانين فإن عناصر الضعف كانت تتسرب إليها، وتحولها إلى حبر على ورق.. وذلك لعدة أسباب:

- إما لأن هذه القوانين صادرة ضعيفة بطبيعتها، لا تراعى ظروف المجتمع.. وبالتالى فهى غير ممكنة التطبيق.

- وإما لأنها لا تجد القلوب المؤمنة والعقول الواعية التى تعمل على تفسيرها وتحويل موادها إلى خطوات قابلة للتنفيذ، إذ نصت إحدى مواد القانون 110 لسنة 1944 على أن يتولى كل صاحب مصنع مسئولية تعليم عماله، إذا وصل عددهم إلى مائة أو أكثر، وتحايلا من أصحاب المصانع.. كانوا يعينون فى مصانعهم 98 و99 عاملا.. هروبا من تطبيق القانون.

- والسبب الثالث أن الدولة لم تضع الضمانات الكفيلة بنجاح هذه القوانين.. ومن أهمها توفير الاعتمادات المالية لها.. والدليل على ذلك أن المبالغ التى اعتمدت لمشروع محو الأمية خلال تسع سنوات من 1944 إلى سنة 1953 لم تتعد 3.085000 جنيه، بينما كان عدد الأميين فى ذلك الوقت يقدر بحوالى 12 مليون أمى، ولذلك فإن أقسام مكافحة الأمية لم تستطع أن تمحو أمية أكثر من 627000 دارس طول هذه الفترة الطويلة نسبيا.

مشكلة الكبار

وقد نص القانون رقم 76 لسنة 1970 على أن تعليم الكبار و محو الأمية مسئولية قومية.. كما وضعت مواده أمام تجربة جديدة حددت خلالها الجهات المسئولة عن التنفيذ.. وهى وزارة التربية والتعليم والاتحاد الاشتراكى العربى، ووحدات الإدارة، والجمعيات الخاصة والنقابات العمالية، والمثقفون، وصدر أيضا قرار جمهورى بتشكيل المجلس الأعلى لتعليم الكبار، ويضم ممثلين عن وزارات القوى العاملة والشئون الاجتماعية والثقافة والداخلية والقوات المسلحة والأوقاف والشباب والجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء.

ومنذ فبراير عام 1971 تعمل وزارة التربية والتعليم مع وحدات الإدارة المحلية والنقابات العمالية والاتحاد الاشتراكى، بموجب هذا القانون.. فماذا كانت النتائج؟ وهل حققت هذه التجربة الأمل المنتظر منها؟ وكم عدد الأميين الذين تم تعليمهم فى فترة الخمس السنوات الماضية؟

وقبل الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها يجب أولا أن تعطى فكرة مختصرة عن سير العمل خلال تلك الفترة.. وذلك من واقع تقارير وآراء المسئولين عن تعليم الكبار بالجهة التنفيذية الأولى للمشروع وهى وزارة التربية والتعليم.. وتتلخص هذه الآراء فيما يلى:

أولا: منذ بداية التجربة لم يتم حصر دقيق لعدد الأميين الذين نص عليهم القانون وهم من سن الثامنة حتى سن 45 سنة.

ثانيا: عدم إقبال الدارسين فى المدن والقرى على فصول محو الأمية لأسباب كثيرة، منها عدم التوعية الملائمة وعدم ملاءمة الوقت مع مواعيد الدارس، وعدم وجود الدافع القوى الذى يجعله يضحى بساعة من وقت راحته (إذا كان عاملا فى مصنع) ليقضيه فى فصل محو الأمية.

ثالثا: عدم مراعاة الحالة النفسية للدارسين من كبار السن.. لا من حيث الشكل مثل مقاعد تلاميذ المدارس الإبتدائية الذين يحشرون فيها، وأيضا حجم الكتب الكبيرة الذى كثيرا ما يسبب لهم نوعا من الحرج.. ولا من حيث المضمون مثل المواد التى تدرس لهم، وتفترض أنهم سذج يتساوون مع الأطفال فى تفكيرهم..

رابعا: ضآلة الحافز المادى بالنسبة للمدرسين.. حيث يكافأ المدرس بأربعة جنيهات شهريا.. تصرف له 320 قرشا، أى ما يعادل 5 قروش مقابل الحصة الواحدة فى فصول الأمية.

خامسا: عدم ربط برامج التعليم ببرامج أخرى أو نشرات أو كتيبات تساعد الدارس فى تنمية لغته وممارسة قدراته التى اكتسبها فى فترة التعليم.

سادسا: اختلاف مواعيد الامتحانات فى كل مصلحة أو مؤسسة، وذلك حسب ظروف العمل فى كل منها.. وهذا بالطبع لا يتيح توحيد مواعيد الدفعات التى تتخرج، كما يربك البرنامج من أساسه.

وإذا كان القانون قد ألزم عمال الحكومة والقطاع العام الذين يمكن حصرهم بسهولة بتقديم الشهادات الدالة على محو أميتهم، وربط بين حصولهم على هذه الشهادة وبين علاواتهم وترقياتهم مما اضطرهم إلى حضور الدورات التعليمية.. فإن 7.5 مليون أمى حسب الإحصائية التقديرية للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء هم تعداد القطاع الأهلى الذى لا يخضع لعمل منظم أو ملتزم.. ما زالوا يرتعون فى ظلمات الأمية دون حسيب أو رقيب.

الجانب الأخطر فى القضية

ففى تصريح للدكتور مصطفى كمال حلمى وزير التربية والتعليم، أن التعليم الإبتدائى استوعب فى العام الماضى 73% من عدد الأطفال الذين وصلوا إلى سن الإلزام، وأن هذه النسبة سترتفع فى العام الحالى 76 – 1977 لتصل إلى 80%، كما صرح أن هناك خطة بحيث تستوعب المدارس الإبتدائية الملزمين بنسبة 100% فى سنة 1980.

ومعنى ذلك أننا أضفنا فى العام الماضى وحده إلى نهر الأمية 27% من عدد الملزمين بالتعليم، كما أضفنا إليه هذا العام 20% منهم، هذا إلى جانب أن النسب التى تستوعبها فعلا المدارس الإبتدائية – إذا تتبعناها حتى وصول تلاميذها إلى السنة السادسة – تنخفض تدريجا.. نتيجة لتسرب البعض تحت ظروف الحاجة المادية واحتياجات العمل ومساعدة الوالدين فى نفقات الأسرة.. إلخ، ولا يلبث هؤلاء أيضا أن ينضموا إلى صفوف الأمية من جديد.

فى الواقع.. أن مشكلة تعليم الكبار ليست بمشكلة.. إذا قيست بهذه الأعداد الضخمة التى لا يستوعبها التعليم الإبتدائى سنويا، إلى جانب الأعداد التى تتسرب من هذه المرحلة وترتد إلى الأمية.. هذه هى المشكلة الأساسية التى يجب أن يعمل لها المسئولون ألف حساب، ولا يمكن أن يكون العجز فى الإمكانيات – مهما كان – سببا فى إهمالها أو التغاضى عنها.. وخاصة أن المشكلة تواكب مشكلة أخرى لا تقل عنها أهمية فى حياتنا وهى زيادة النسل زيادة كبيرة بالرغم من المحاولات العديدة لتنظيمه وترشيده.

مقترحات وحلول مطروحة للمناقشة

وهذه مجموعة من الحلول والمقترحات أطرحها على بساط البحث والمناقشة:

- أعيدوا نظام الكتاتيب ولتكن بطريقة عصرية.

- استغلوا المساجد والكنائس فى فتح فصول جديدة.

- افتحوا مراكز الشباب لتعليم الأميين.

- علموا أولادنا فى الهواء الطلق.. وسط الحقول والمزارع، والقرى والكفور.. وهذه ليست أول تجربة من نوعها فقد سبقتنا إليها إيران.

هذا إذا العجز فى الفصول من حيث هى أماكن لتجميع التلاميذ.. أما إذا كان العجز فى المدرسين فأمامنا حلول أخرى:

- تجنيد الشباب سواء شباب الجامعات أو خريجو الثانوية العامة لمدة معينة، تطبق عليهم خلالها قوانين لا تقل فى قوتها ومسئوليتها عن قوانين التجنيد للخدمة العسكرية.. وذلك بدلا من انتظارهم لمدة سنتين أو أكثر بلا عمل.. إلى أن يجىء قرار التعيين.

- تشديد العقوبة على كل من يتهرب من التعليم الإلزامى وتطبيقها بجدية.

- تحديد المكافأة على أساس عدد الذين تم تعليمهم، وليست مكافأة شهرية.

كتائب مكافحة الأمية

هناك كثير من الدول قامت بعمل مشروعات محو الأمية فى بلادها، مثل كوبا، والصين، واليابان، وإيران، وخاضت تجارب عميقة بعضها نال إعجاب وثقة منظمة اليونيسكو واتخذت المنظمة من هذه التجربة مثالاً يحتذى ويطبق على بعض الدول النامية.

ولنقف قليلا عند تجربة إيران التى بدأت تطبق نظام كتائب التعليم، والذى بموجبه يتم تجنيد كل خريجى الثانوية العامة الذين لم يلتحقوا بالجامعات.. وأيضا خريجى الجامعات فى كتائب.. تسمى كتائب التعليم ومكافحة الأمية، حيث يقضى المجند مدة 6 أشهر فى دورة تدريبية ينطلق بعدها مع كتيبته إلى القرى، ولا يعود منها إلا بعد انتهاء مدة تجنيده التى لا تقل عن سنتين فى محو أمية الكبار.

وبفضل هذه الكتائب والقوانين المنظمة لها استطاعت إيران أن تخفض نسبة أميتها من 80% عام 61 إلى 40% من مجموع الشعب الإيرانى.

وزارة مسئولة أمام الجماهير

هناك أكثر من أسلوب للعمل.. وأكثر من خطة يمكن أن تطبق.. وأكثر من تجربة.. ولكن الأهم من هذا كله أن تكون هناك جهة واحدة.. أو وزارة مسئولة ومتفرغة لإدخال النور إلى عقول وقلوب هذا العدد الكبير من أبناء الشعب.. وزارة تكون مسئولة عن تنفيذ برنامج زمنى معين تعلن فى نهايته تاريخ الاحتفال بتعليم آخر أمى فى مصر.. ولتأخذ من الوقت ما تشاء ولتستعن بما تشاء ولكن المهم أن تبدأ وتبدأ بجدية.

نحن الآن فى صراع مع الزمن.. نسير ببطء والزمن يجرى من حولنا.. وإذا كانت مصر قد لمست أهمية التعليم من خلال مقاتل 6 أكتوبر الذى استطاع أن يستوعب أحدث أجهزة الحرب الإلكترونية خلال سنوات قليلة.. هى فترة الإعداد لتلك الحرب.. فإن مصر الآن فى حاجة إلى العامل المتعلم والزارع المتعلم والتاجر المتعلم.. حتى يعبر بها أبناؤها من ظلام الجهالة إلى النور والأمل والرفاهية.

تم النشر فى السنة الأولى – العدد السابع والثلاثون – 10 يوليو (تموز) 1977 – 27 رجب 1397

أضف تعليق