يؤثر التخطيط القومي للدولة على البناء الاقتصادي والاجتماعي والقوة السياسية والإعلامية وأحياناً العسكرية، لذلك تضعه الدول على قمة أولوياتها وتسعى لتكليف أكبر الخبراء للعمل عليه. حيث تنطلق هذه الدول فى مسيرتها للنمو والازدهار، استناداً على التنمية الشاملة القائمة على العدالة الاجتماعية التى تُصبح الهدف الاستراتيجي القومي. لذلك يتم التركيز أولاً على رفع قدرات القوى البشرية وتعظيم إمكاناتها المعرفية والتكنولوجية، وفى نفس الوقت تعمل كافة المؤسسات على تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة وجودة حياة المواطن.
مفهوم التخطيط القومي الذي ترتكز عليه هذه الدول هو تلك العملية التي يتم بها محاولة السيطرة على السير التلقائي للأحداث على المستوى القومي، من خلال وضع مسارات استراتيجية محددة يُفترض أن تلتزم بها جميع مكونات الدولة من قطاع حكومي وقطاع خاص ومجتمع مدني، من حيث وحدة الأهداف وعدالة توزيع الموارد وكفاءة استخدام كافة الإمكانيات المتاحة لدى الدولة لتحقيق أهدافها العليا التي تصب فى مصلحة مواطنيها، ويتم كل ذلك وفق أولويات قومية يتم تحديدها مسبقاً وبما يراعي مصالح الأجيال المتعاقبة.
ومع التقدم المعرفى والتكنولوجي، تغيرت الوسائل والأساليب الداعمة لعمليات التخطيط القومي واتضحت أهمية التحول الرقمي فى جميع مراحل العمل، بداية من مرحلة الإعداد والتجهيز للخطة الاستراتيجية القومية وهي المعنية بتحليل الاحتياجات على مستوى الدولة من خلال التعرف على توجهات الرأي العام، وتجميع وتصنيف المطالب والاحتياجات العامة، وتجميع وتصنيف المشكلات والشكاوى العامة. ليصبح لدى الدولة قاعدة معلوماتية قوية تُعبر عن تصور عام للمطالب والاحتياجات الشعبية وكذلك هموم ومشاكل المواطنين، ليتم وضعها طبقاً للأولوية التي تستحقها عند وضع الخطط التنفيذية.
وللتعرف على حقيقة استخدام الدولة للمعلومات وال تكنولوجيا فى مرحلة ما قبل التخطيط القومي، يجب أن يتم طرح عدة أسئلة، تبدأ من التعرف على موقف تحليل الاحتياجات الجماهيرية. فهل تمتلك الدولة منظومة رقمية قومية للتعرف على توجهات الرأي العام، أو تجميع مطالبه واحتياجاته واهتماماته وهمومه، وهل ساهمت هذه المنظومات فى تحسن حالة الرضا لدى المواطن وزادت من إحساسه بالولاء والانتماء للوطن. حيث إنه بمراعاة الحقوق للمواطن وأداء الواجبات المفروضة على الدولة تجاه مواطنيها بشفافية وحيادية ونزاهة، ما يضمن تزايد التماسك الاجتماعي والترابط الوطني.
أما عن مرحلة التخطيط القومي، فإن هذه المنظومة المعلوماتية والتكنولوجية تقوم ببناء قواعد بيانات عن إمكانيات الدولة من الموارد الطبيعية والقوى البشرية والقدرات الإنتاجية، مع ضمان توافق سُلطة القرار فى الدولة مع هيكلها الإداري وتكاملها وترابطها رقمياً بما يضمن كفاءة عملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية. ومن ناحية أخرى يتم الاستفادة من هذه ال تكنولوجيا فى وضع أهداف الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية فى مصفوفات تشاركية مع الموارد والإمكانيات. لينتج عن ذلك، بناء معلوماتي قومي مترابط بين الموارد والأهداف والخطط والآليات. وتكتشف الدولة أنها قد أصبح لديها منظومة رقمية للإدارة والقيادة والدعم الاستراتيجي للقيادات العليا حتى فى أوقات الأزمات.
وبعد مرحلة بناء الخطة القومية، تأتي مرحلة إدارة الدولة رقمياً وتكنولوجياً وهي التي تتميز بوجود قاعدة بيانات قومية للخطط التنفيذية لقطاعات الدولة المختلفة موضحاً المهام والتوقيتات الزمنية والنتائج المحددة تحديدا دقيقاً ليتم قياسها وتقييمها. وتتكامل كلها رقميا بالهياكل التنظيمية ونظم ولوائح وإجراءات العمل فى كل جهات الدولة المشاركة فى التنفيذ، مع التكامل مع ملف كل موظف فى الدولة محدداً به مهامه الوظيفية ومسؤولياته وصلاحياته وطرق وآليات عمله فى تنفيذ الأنشطة المحددة بالخطط التنفيذية. ليصبح لدى الدولة نظام رقمى يربط بين الخطط والقطاعات المختلفة فى الدولة وكذلك الهياكل التنظيمية ومهام الأفراد فى كل مؤسسة فى الدولة ليسهل متابعتها وتقييمها.
وبالإضافة إلى الإدارة الرقمية للقطاع الحكومي، تتواجد نظم رقمية لمتابعة وتقييم أداء القطاع الخاص والمجتمع المدني ودورهم فى عملية التنمية والذي تم تحديده مسبقاً فى الخطة القومية ليكون متكاملاً مع أداء القطاع الحكومي. وذلك بالاعتماد على الترابط الرقمي مع الغرف التجارية واتحادات الصناعات وجمعيات المستثمرين ورجال الأعمال والنقابات المهنية و الأندية الرياضية وغيرها من مكونات القطاع الخاص والمجتمع المدني. ليتم تبادل المعلومات بين كل تلك الأطراف وفق منظومة رقمية قومية لا تستثنى أحداً من القوى الفاعلة فى المجتمع. وبالتالى تصل مساهمات هذه الأطراف المشاركة فى البناء الوطنى، لمتخذ القرار الاستراتيجي فى الدولة، عن طريق هذه البنية الرقمية الموحدة، وكذلك تصل مشكلاتهم وهمومهم لبحثها والتغلب عليها لتعظيم مشاركة الجميع فى التنمية، مع التغلب على المعوقات التى تواجههم.
وفى مرحلة أخيرة، تدخل مؤسسات الدولة إلى نطاق متابعة وتقييم النتائج من خلال بناء قاعدة مؤشرات التقييم والمتابعة مع تحديد عناصر الكفاءة والفعالية، وفى النهاية لابد من استخدام الوسائل الرقمية فى تقييم الأثر العام للسياسات العامة، على مصالح وأوضاع المواطنين والدولة، مع قياس واضح ودقيق لتطور جودة حياة المواطن الذي تكون هي الهدف الأسمى لكل المنظومات الرقمية الداعمة للتخطيط القومي.
وبانتهاء هذه المراحل، يصبح لدى الدولة منظومات رقمية، لمتابعة وتقييم الأعمال والنتائج والسياسات على كافة المستويات التنظيمية والتى تتبع مؤشرات محددة لتقييم كفاءة الأعمال والمشروعات والسياسات. ويتم عرض نتائجها على القيادات الإستراتيجية لمتابعة وتقييم أداء الدولة. ويصبح لدى الدولة نظام موحد لتسجيل ومتابعة المشروعات القومية وعرض نتائجها، ليعرف متخذ القرار بأسهل وأسرع الطرق التكنولوجية، موقف كافة أنشطة الدولة وخاصة المتأخر منها الذي يتم عرضه بصورة أوضح، مع إمكانية الوصول لكافة معلومات النشاط وأسباب تأخره عن الموعد المحدد. وباستمرار العمل فى هذا الاتجاه تتحول الدولة من بناء المنظومات الرقمية التقليدية والداعمة للتخطيط القومي إلى إدارة الدولة رقمياً.
وبعد الوصول لهذه المراحل المتقدمة، ينبغي على الدولة أن تحافظ على ثباتها واستقرارها الرقمي الذي سيكون هو العمود الفقري للاقتصاد المعرفي، ولذلك يجب على واضعي استراتيجيات التحول الرقمي على المستوى القومي، العمل على تطبيق عدة مفاهيم تبدأ من الحماية والتأمين القائم على خوارزميات تشفير تستخدم فى حماية وتأمين البيانات، ويتم بناؤها بأيدى علماء وطنيين. ثم يأتي فى المقام الثاني توفير بيئة رقمية غير قابلة للأعطال والتوقف عن طريق تلافى ما يسمى بنقطة الانهيار الوحيدة، حيث تعمل كل الشبكات والخدمات طبقاً لمبدأ ضمان استمرارية العمل بما يشمل بنية تكنولوجية متكررة ودورات عمل منضبطة ونظم معلوماتية متوازية غير قابلة للتوقف ومراكز بيانات تبادلية. مما يؤدى إلى تلافى أكبر خطر يواجه استمرارية الخدمة وهى نقطة الانهيار الوحيدة والتي تعني أن هناك شبكة أو خدمة تعتمد فى تشغيلها على خط واحد، إذا انقطع تتعطل الخدمة. ويختفى استخدام المؤسسات للأنظمة الروتينية التقليدية ويتعامل المواطن رقمياً مع كافة الأعمال والأنشطة فى الدولة ويرتفع مستوى الأداء العام للدولة ومؤسساتها ومواطنيها وكذلك يرتقي المستوى الثقافى والاجتماعي للمجتمع.
ثم تنتقل الدولة لمرحلة متقدمة وهي الدولة الذكيه التى تظهر للعلن بعد التحول الرقمي وتكون فيها الأولوية لاستخدام تكنولوجيا المستقبل الذكية والتى يتم فيها محاكاة الذكاء البشرى وإستخدام المجسات الإلكترونية فى الترابط بين المؤسسات والمنشآت والأفراد والأجهزة الرقمية، وتعمل كلها فى ترابط وتكامل لبناء منظومات متطورة تساهم فى الارتقاء بكافة قطاعات الدولة بدءاً من الخدمات المقدمة للمواطن مثل الخدمات الصحية والتعليمية والمرور وخدمات المرافق العامة وغيرها من الخدمات التي تقدمها كافة أجهزة الدولة. ليجد المواطن أنه قد أصبح يتعامل مع مؤسسات ذكية ومبان ذكية ومدن ذكية تترابط كلها فيما بينها بالشرائح الإلكترونية وتتبادل البيانات وتُسهل الخدمات التي تُصبح رقمية ذكية وتفاعلية استباقية.
ويصبح لكل مواطن هوية رقمية مستمدة من أحد مكوناته البيولوجية التي لا تتغير سواء كانت بصمات لليد أو للعين أو الصوت، ويتعلم كل طالب فى مؤسسته التعليمية طبقاً لمعايير الذكاء الاصطناعي فى تلقي العِلم أو فى تقييمه أو حتى فى اكتشاف قدراته الكامنة التي لا يمكن دراستها والتعرف عليها إلا ب تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وتتطور الخدمات الصحية للمواطن لتصل إلى خدمات استباقية فى التعرف على الحالة الصحية للأفراد ومتابعتهم دورياً والمبادرة إلى علاجهم، وكل ذلك باستخدام تكنولوجيات المستقبل من الذكاء الاصطناعى وإنترنت الأشياء والطائرات بدون طيار. التي تصبح هي الأساس التكنولوجي فى الدولة سواء فى تقديم الخدمات أو فى تقييم الخدمات بين كافة المؤسسات والأفراد وبالتطبيق على المنشآت الذكية والمُدن الذكية أيضاً.
ولكي تصل الدولة لهذا المستوى، فإنه يجب عليها التعرف على الفجوات الموجودة ومحاولة علاجها والتغلب عليها، مثل فجوة المهارات التي يتمتع بها أفراد المجتمع للتعامل مع هذه ال تكنولوجيا الذكية، وقدرتهم على السيطرة عليها وتطويعها لخدمة أهداف الدولة، وكذلك الفجوة التشريعية فى القوانين والقرارات الداعمة لتمكين التحول الرقمي من مساندة عملية التخطيط القومى للنهوض بالدولة. وكذلك الفجوة فى البنية الرقمية والمعلوماتية التي تترابط بينها فى منظومة واحدة، وكذلك يتم التوسع فى تطبيق ال تكنولوجيا المتقدمة مثل إنترنت الأشياء والطائرات بدون طيار والذكاء الاصطناعي وغيرها من أنواع تكنولوجيا المستقبل بحيث تُصبح مكونا أساسيا فى عمليات التشغيل والرقابة والمتابعة لكثير من المهام فى كافة قطاعات الدولة.
وكذلك، فإن على الدولة أن تعالج كل الفجوات المؤسسية التي تنتج عن تضارب الاختصاصات الرقمية وتداخلها بين المؤسسات وبعضها البعض لتتمكن من بناء منظومة موحدة تتبع كل معايير الحوكمة فى الأداء المؤسسي الداعم للتحول الرقمي الاستراتيجي الذي يدفع بالدولة فى اتجاه اقتصاد المعرفة وهو طوق النجاة فى مرحلة التغيرات المستقبلية ســـواء التكنولوجية أو الاقتصادية.