يتعامل البعض من صناع الأغنية حاليا مع الأغانى الفلكلورية، وكأنها أرض مستباحة، لكونها مجهولة النشأة، فيقومون بطرحها وقد نسبوها لهم على أنها من إبداعاتهم، ولأن هذا النوع من الأغانى ارتبط بوجدان الشعب وشكل هويتهم، يقبل الكثيرون عليها ويرددونها ويكتبون لها النجاح العريض، دون أن تدرك الغالبية منهم، أنها من نسيجهم وجلدهم بسبب تغليفها بتوزيع موسيقى جديد، أو تغيير بسيط فى بعض كلماتها أو جملها اللحنية، لكن سرعان ما يكتشف البعض من الدارسين، وممن يمتلكون الآذن الموسيقية هذه الجريمة، التى لا تتمثل فى اقتباس بعض الكلمات أو الجمل اللحنية، بقدر ما تمثل اقتباس تراث شعب بأكمله لأنه ملك للجميع، ولعل أخر هذه الأزمات ما حدث مع أغنية «للي» التى تغنى بها «الكينج» محمد منير، قبل عدة أشهر ما يعيد للأذهان هذا الملف المتخم بالاقتباس من الأغانى الفلكلورية.
نسب الفنان أكرم حسنى لنفسه تلحين أغنية «للي»، دون أدنى إشارة منه إلى أن هذا اللحن من التراث، ليفاجأ الناس بالمغنى محمود المنسى يخرج على الجميع ليتهمه بسرقة اللحن منه، وإنه يتطابق بشكل كبير مع لحن أغنيته «ولد الهلالية» التى طرحها عام 2017 وقام بتلحينها له سيد طه، لكنه وفقا للعقود المبرمة بينهما يعد هو صاحب الملكية الفكرية لها، بل سارع بتقديم شكوى لإدارة موقع «يوتيوب» يتهم صناع الأغنية بسرقة لحنها والسطو على حقوق الملكية الفكرية، فما كان من إدارة الموقع الشهير، إلا أن قامت بحذف الأغنية إلى أن يتوصل الطرفان لحل، أو يثبت أحدهما ملكيته للحن الأغنية بشكل قانوني، ثم فيما بعد تم عرض الأغنية بعد أن أنتهت الأزمة.
أمام السجال الذى حدث بين حسنى والمنسي، يكتشف الجميع أن اللحن فى الأساس ليس إبداعا خالصا لأى منهما، وإنما هو من الفلكلور، وقد سبق للمداحة الشعبية الشهيرة خضرة محمد خضر، أن تغنت به منذ أكثر من 60 سنة فى أغنية «يونس خطر فى السوق ولد الهلالية»، التى تعد من أغانى التراث التى اشتهرت بتقديمها فى الموالد والإذاعة المصرية، تحت إشراف مكتشفها وزوجها المؤلف زكريا الحجاوي، الذى كان يعد من أهم رواد الفن الشعبى، وحمل على عاتقه مهمة تقديم التراث الشعبى المصرى عبر وسائل الإعلام المختلفة.
لم يقتصر الأمر على أغنية «للي»، ففى نفس الوقت تعرضت المطربة أصالة لحملة انتقادات واسعة، بسبب أغنيتها الجديدة «كفوكيم» التى طرحتها أخيرا على «يوتيوب»، وهى إحدى أغنيات ألبومها الجديد «شايفة فيك»، وذلك بعد أن خرج المطرب السورى الكردى إبراهيم كيفو الذى يقيم فى ألمانيا، ليعلن على الملأ أن هذه الأغنية كلمات ولحن، أغنيته التى سبق وقدمها للمرة الأولى فى مهرجان الأغنية السورية سنة 1998 بقلعة حلب، وتحمل عنوان «خلونا الليلة نغني» من كلمات عزت الحديدي، وأنها ليست كما ادعت أصالة من تأليف وتلحين الفنان الكردى أرى جان، الذى شارك فى توزيعها أيضا موسيقيا مع الموزع دياب، وأن أغنيته الأصلية لا تزال موجودة بأرشيف الإذاعة والتليفزيون السوري.
وما إن انكشف هذا الأمر حتى بدأت الحقائق تتضح أكثر، وأن هذه الأغنية تعد فى الأصل من التراث الكردي، وقد سبق أن أعاد توزيعها البعض، مثل المطرب الكردى الراحل محمد عارف الجزراوى وحسن جزيرى وجان كارات وإبراهيم كيفو، ليأتى بعد كل هؤلاء الملحن الكردى أرى جان ليقنع أصالة عندما قدمها لها بأنها من ألحانه وكلماته، فما كان منها إلا أن قدمتها، وقد نسبتها له برغم أنها مصنفة ضمن التراث الكردي.
إن التراث ملك الجميع ونبع من حق كل شخص أن ينهل منه، ويضيف إليه ويحذف منه ويطوره، بشرط أن يذكر ذلك، وألا ينسبه له ويدعى أنه من إبداعه الخاص، وقد استلهم الكثيرون من هذا التراث وصرحوا بذلك، خصوصا أنه يعد الواحة التى تربط حاضر أى مجتمع بماضيه، وقد يكون فيها الحل الذى يجعل الناس تهرب من الانحطاط الغنائى الذى ينتشر أحيانا أو يسود فى فترة ما، وأيضا هو الملجأ الحقيقى أمام موجة الاغتراب التى تعيشها الأجيال الجديدة، بفعل غرقها فى بحر الأغانى المستوردة من الخارج، مثل الكورية والهندية والتركية والإنجليزية وغيرها.
أيضا من حق صناع الفن أن يستلهموا منه ويتخذونه نواة لخلق إبداعى جديد، عندها يصبح ما أبدعوه ملكا لهم، دون أن يسلبوا التراث حقه فى أنه النبع الذى استلهموا منه منتجهم الجديد، تماما كما فعل موسيقار الشعب سيد درويش فى بعض أغنياته التى استقاها من التراث مثل «يا عزيز عيني» و»سالمة يا سلامة»، وكذلك الملحن بليغ حمدى عندما لحن لعبد الحليم حافظ أغنيتى «على حسب وداد قلبى يا بوي» التى كتبها صلاح أبو سالم، و»أنا كل ما أقول التوبة»، التى كتبها عبد الرحمن الأبنودى، فقد قام ومعه المؤلفان من التراث بعمل بناء جديد على الجملة الكلامية واللحنية، دون أن يدعى أى منهم أنه من إبداعه الخالص، وهو نفس ما حدث قبل ذلك بسنوات مع أغنية «أنا كل ما أقول التوبة»، فقد قدمتها المطربة ليلى مراد فى فيلم «سيدة القطار» بعد أن استلهمها كاتبها بيرم التونسى وملحنها حسين جنيد من التراث.
ونفس الشيء حدث مع أغان كثيرة، منها «آه يا زين العابدين» التى تغنت بها المطربة صباح، وأغنية «بالليل تنام العيون» التى تغنى بها هشام عباس، واعترف ملحنها محمد رحيم بأنها من الفلكلور الصعيدي، وأغنية «خطوة يا صاحب الخطوة» التى تغنى بها مصطفى حجاج، فقد استوحاها الملحن عزيز الشافعى من التراث باعترافه أيضا.
كما أن العديد من أغانى محمد منير، صاحب أغنية «للي» التى أعادت للأذهان ظاهرة الأغانى المقتبسة من التراث، قد استوحاها أيضا من التراث سواء النوبى مثل أغنيات «أبو طاقية، سكر سكر» أم التونسى الذى استلهم منه أغنية «تحت الياسمينة»، أيضا لجأت المطربة أنغام إلى التراث الليبى، فقدمت منه أغنيتها «وحدانية»، ومن الفلكلور الليبى أيضا استلهم المطرب فارس أغنيته «حلوة»، حتى أغانى المهرجانات الكثير منها تمت أخذ ألحانه من التراث، مع كلمات جديدة خرجت بها عن روحها، لهبوطها وانحدارها ومخاصمتها للذوق العام.
الأغرب من ذلك هو ما يفعله البعض من الملحنين، عندما يقومون بأخذ ألحان معروف أصحابها، وإذا كان هناك من يلتمس العذر لمن يغرف من التراث، بحجة أن ليس له صاحب، فماذا عن هذا النوع الثانى الذى يتمثل فى هؤلاء، الذين ينسبون لأنفسهم ألحانا معروفة ومسجلة بأسماء مبدعيها؟ صحيح أن أغلب هذه الألحان غربية، وربما يفعل آخذوها ذلك بحجة جهل الكثيرين بها، وأن أحدا لن ينتبه إليها، خصوصا أنها قد تكون من دول لا تنتشر موسيقاها وتراثها لدى الشعوب العربية، مما يدفعهم إلى الاقتباس وهم مطمئنون أن أحدا لن يفضح أمرهم، وقيامهم بإعادة توزيعها وإدخال آلات موسيقية شرقية عليها، لإكسابها التابع الشرقى وإلبساها ثوبا يضلل الناس فلا ينبهون لأصلها وفصلها.
المثير فى الأمر أن كبار الملحنين تورطوا فى ذلك، وفى مقدمة هؤلاء موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ولعل هناك حادثة شهيرة سلطت الضوء على هذا النوع من الاقتباس، عندما خرج الصحفى الشهير محمد التابعى ليقود حملة صحفية بعنوان «امسك حرامي»، اتهم فيها عبد الوهاب علانية باقتباس ألحان عالمية لبيتهوفن وآخرين، المدهش فى الأمر أن عبد الوهاب نفسه لم ينكر ذلك واعتبره اقتباسا وليس سرقة، لأنه لم يأخذ من هذه الألحان سوى جمل موسيقية لا تتعدى ما اشترطته جمعية الموسيقيين وقتها، حتى تصبح عملية السرقة مكتملة الأركان، مشيرا إلى أنه بالفعل فعل ذلك أكثر من مرة، خصوصا فى أغنية «يا ورد من يشتريك» التى اقتبسها من بيتهوفن و»أحب عيشة الحرية» التى اقتبسها من فولكلور روسي، لكنه استطاع أن يعطى لكل أغنية من شخصيته وفنه، وإذا كان عبد الوهاب قد اعترف بهاتين الأغنيتين، فقد كشف النقاد أن له اقتباسات أخرى منها أغنية «القمح» التى اقتبس لحنها من تشايكوفسكى، وأغنية «سجى الليل» من كورساكوف، وأغنية «يا قلبى ياخالي» من أغنية أجنبية بعنوان «Hit the road Jack «.
ويعد ما قام به عبد الوهاب أحد أبرز الأسباب التى كانت وراء حرمانه من جائزة اليونسكو التى حصل عليها رياض السنباطى سنة 1977، كما أن تقريرا لجمعية الموسيقيين جاء فيه، أنه تم رصد تجاوزات عديدة لعبد الوهاب، حيث قام باقتباس أكثر من 3 موازير، فى بعض أغانيه من ألحان غربية وفى مقدمتها أغنيات «جفنه علم الغزل، يا مسافر وحدك، يا دنيا يا غرامي، عندما يأتى المساء» وهذا يعنى وفقا لكلام جمعية الموسيقيين، أن موسيقار الأجيال تعدى فى هذه الأغانى حالة الاقتباس إلى حالة غيرها.
الأمر لم يقتصر فقط على عبد الوهاب، بل طال الرحبانية أيضا، والذين لم ينكروا ذلك، فمثلا أغنية «لبيروت» اعتراف زياد الرحبانى، بأنها مقتبسة من مقطوعة «كونشيرتو دى ارانخويز» للموسيقار الإسبانى خواكين رودريجو، علاوة على العديد من الأغنيات الأخرى التى تغنت بها فيروز، مثل «لا والله» التى تم اقتباس لحنها من الفولكلور المكسيكى، وأغنية «شو بخاف» من لحن برازيلى وغيرها.
أما بالنسبة لجيل عمرو دياب وتامر حسنى ومن جاءوا بعدهما فحدث ولا حرج، ويحتل عمرو دياب المقدمة بأغنياته العديدة خصوصا الشهيرة منها، التى اقتبس ألحانها من أغنيات أجنبية، مثل «قدام عيونك» التى اقتبسها من أغنية عالمية حملت عنوان « «my baby new، وأغنية «الليلة دي» من أغنية «sway «، ومن أغانيه أيضا «تملى معاك» فقد تم اقتباس لحنها من أغنية للمغنى الأمريكى «مارك انتوني»، وأغنية «كل الكلام» التى اقتبس لحنها من التراث المغربى، وكشف ذلك أنه نفس اللحن الذى تغنى به المطرب المغربى طه رشيد، من خلال أغنيته «يا رايح»، وأغنية «صدقنى خلاص» المقتبس لحنها من أغنية لفرقة «ويست لايف».
ينضم إلى القائمة المطربة سميرة سعيد، بأغنيتها «كل الأوقات» التى لحنها عمرو مصطفى حيث اكتشف فيما بعد، أنها مقتبسة من أغنية للمغنية الأمريكية جيسيكا سيمبسون.
من الأغنيات التى نالها الاتهام أغنية «3 دقات» التى كتبت الشهرة للمغنى «آبو» عندما قدمها مع الفنانة يسرا، حيث وجد أنه قام باقتباسها من لحن إسبانى قديم، ومن الألحان التى تم اقتباسها كذلك، أغنية نانسى عجرم «أه ونص» وقد تم اقتباس لحنها من لحن إيرانى قديم.
هناك نوع ثالث من المقتبسين يقوم باقتباس الألحان الشرقية الخاصة بزملاء له، لا يزالون هم أو ورثتهم على قيد الحياة، فقد سبق أن تقدم الملحن الراحل حسن إش إش بشكوى إلى نقابة المهن الموسيقية، ضد نقيب المهن الموسيقية الأسبق مصطفى كامل، يتهمه فيها باقتباس لحن «السلام عليكم» الذى قدمه لحكيم، وإن مصطفى ركب على هذا اللحن كلمات أغنية «بس قول يا رب»، أيضا هناك أغنية «سهرونى الليل» التى تغنى بها راغب علامة، فقد تم اقتباس لحنها من أغنية «ارمى المناديل» الخاصة بمصطفى قمر الذى قدمها قبله بسنوات طويلة.
أيضا هناك كارول سماحة التى وصل بها الأمر، أن تغنى أغنية «وحشانى بلادي» على المقدمة الموسيقية لأغنية «ليلة حب» التى لحنها موسيقار الأجيال لأم كلثوم، ونظرا لأن هذا اللحن تحفظه كل أذن، فما إن طرحت هذه الأغنية حتى اكتشف ذلك الجميع بشكل، جعل ورثة عبد الوهاب يحركون دعوى قضائية، وأسفر الأمر فى النهاية إلى ذكر اسم موسيقار الأجيال على هذه الأغنية، وعند طرح أغنية «الناس الرايقة» التى جمعت بين عدوية ورامى عياش، واجهت الاتهام باقتباس لحنها من أغنية «الحب بييجى فى ثانية» لمطربة الأوبرا أمنية سليمان، حتى أغنية «بنت الجيران» التى صنعت شهرة حسن شاكوش وعمر كمال، فقد تم حذفها من على «يوتيوب» فور انتشارها، وكان السبب تقديم شكوى من الملحن محمد مدين لإدارة الموقع بأن لحن هذه الأغنية مأخوذ من أغنيته «حاجة مستخبية» ، لكنها عادت من جديد بعد تسوية الأمر بينهم.
إن القائمة طويلة ومتخمة بكل أنواع الاقتباسات، سواء من النوع الأول الذى يمثل الغرف من التراث أم النوع الثانى الذى يمثل الاقتباس من أغان عالمية بلغات غير عربية أم النوع الثالث الذى يتمثل فى الأخذ من الزملاء بعضهم لبعض، وعلى عينك يا تاجر كما يقولون، وبرغم وضوح هذه الجريمة وتأكيدها من قبل المتخصصين، لكن الشماعة التى ترفع دفعا عنها هى توارد الخواطر، مما يشجع الآخرين على ذلك ليبقى ملف القتباسات مفتوحا حتى إشعار آخر.