دروس من ميلاد المسيح

دروس من ميلاد المسيحجرجس صالح

الرأى11-1-2023 | 11:41

لحكمة سامية، رتبت الأديان مواسم وأيامًا معينة للأعياد، ولعل من حكمة الأعياد أنها ينبوع لا يتوقف عن العطاء، إنها تحمل في ثناياها الفرح والبهجة فضلاً عن المعاني السامية التي لأجلها رتبت تلك الأعياد، في عالم يئن تحت وطأة الألم والضيقات والأحزان.
إن الأنظار تتجه اليوم إلى قرية بيت لحم في فلسطين التي باتت في ظلال النسيان وظلام التاريخ، حتى ولد فيها السيد المسيح الذى أحدث تغيرات جذرية في حياة البشر وأفكارهم بما حملت رسالته من مبادئ روحية وفكرية، لعل أهمها المحبة والسلام في قلوب البشر، وتجسيد المحبة هي أولى المبادئ، التي جاء المسيح له المجد ليرسي دعائم لذلك المبدأ أسسه على المحبة كأساس أعلنت الديانة المسيحية أنه "هلال محبة".
جاء المسيح ليعطى البشر فكرًا جديدًا قويا ووحيدا لكل الروابط بين البشر، لقد دعا المسيح إلى أخوة البشر، ولخص التوراة وتعاليم أنبياء العهد القديم، الذين أتوا قبله في وصية واحدة "تُحِب الرّب إِلهَكَ مِنْ كُل قَلْبِكَ، وَمِنْ كُل نَفْسِكَ، وَمِنْ كُل فِكْرِكَ، وَمِنْ كُل قُدْرَتِكَ وقَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ".
ونظرًا للنعرات القومية والحواجز بين الشعوب، توقف المسيح عند كلمة "قريبك" مفسرًا من يكون القريب وأبان أن القريب ليس هو من تربطني به قرابة جسدية، بل هو أخ في الإنسانية ولتوضيح ذلك ضرب مثلاً قال فيه إن يهوديا كان مسافرًا فاعتدى عليه قطاع الطرق وسلبوا كل ما معه حتى ثيابه متسخة وبه جراحا. مرّ به – وهو في هذه الحال – نفر من رجال الدين اليهودي من بنى جنسه، لكنهم جميعا نظروا إليه وتجاهلوه، ثم مرّ به سامري وهو عدو تقليدي لليهود، فضمد جراحه واعتنى به ودفع نفقات علاجه وإقامته في فندق، بل وعد بالمرور عليه بعد شفائه.
ومن هذا المثل أخرج السيد المسيح قاعدة سامية واضحة، وهى أن القريب ليس هو من تربطني به رابطة الجسد أو الجنس بل هو من يسلك بالمحبة مهما كان جنسه أو دينه، فالقريب من البشر بالمحبة هو القريب من الله، والبعيد عن البشر هو بعيد عن الله مهما يكن ادعاؤه بمعرفة الله وعبادته.
وقد عبّر الإنجيل المقدس عن هذه الحقيقة في شكل تساؤل:
"إنَّ مَنْ لاَ يُحِب أَخَاه الَّذِي أَبْصَرَهُ، كَيْفَ يَقْدِرُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ الَّذِي لَمْ يُبْصِرْهُ؟" (1 يو 4 : 20)، كما يقول الانجيل "وَمَنْ لاَ يُحِب لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ" (1 يو 4 : 8) ... بل قال: "وَإِنْ كَانَ لِي كُل الإِيمَان حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئًا" (1 كو 13 : 2)
إن أخوة البشر جميعا عقيدة أساسية في المسيحية مرجعها الإيمان بخالق واحد لا شريك له خلق جميع الناس أو بحسب تعبير الإنجيل أن الله خلق من دم واحد كل أمة من الناس تسكن على وجه الأرض، إن البشر جميعا أخوة، لأن عقيدة التجسّد جعلت من المسيح أخا لكل المؤمنين، وهكذا، فإنه على أساس عقيدة التوحيد أى الإيمان بخالق واحد، وعلى أساس عقيدة التجسّد أى مشاركة جميع المؤمنين للمسيح في أخوة عامة، يصبح التدين السليم هو ممارسة محبة الله ومحبة القريب كسمة واضحة تميز المتدين تدنيا سليما عمن سواه.
بهذا المفهوم أسس المسيح الكنيسة لتكون مجتمع المحبة وشعلة الحرية التي تبدد ظلام التعصب والكراهية ولم يطلب فيها أن تكون مجتمع الفوارق الطبقية والأنانية بل ينبوع العطاء والبذل.
نأتي إلى المبدأ الثاني من مبادئ المسيحية الأساسية وهو السلام، في وقت ميلاد السيد المسيح ظهر جمهور
الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السلام، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ... نعم بمولد المسيح كان على الأرض السلام ... إن السيد المسيح كان ولم يزل وسوف يظل دوما ملك السلام ورئيس السلام ... ونحن نتساءل ونقول مَن من الناس زفته الملائكة يوم مولده كما فعلت ليلة ميلاد المسيح في بيت لحم؟! أليس هذا بينة على طبيعته وطبيعة الرسالة التي جاء يغزو بها عقول الناس وقلوبهم . وهى رسالة هادئة صافية طاهرة ، رسالة عميقة نافذة وفاعلة، أحدثت على الرغم من هدوئها ثورة حقيقية قلبت مفاهيم وحطمت مبادئ.
لقد أراد السيد المسيح ذات مرة أن يذهب إلى قرية من قرى السامرة، فرفض أهلها أن يقبلوه، فغضب لهذه الإهانة اثنان من تلاميذه وأراده أن يُنزل على القرية وسكانها نارًا من السماء تحرقها، "فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِ رُوحٍ أَنْتُمَا" وَقَالَ: "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلصَ" (9 : 55 – 56) ... ومضى إلى قرية أخرى معلما تلاميذه أن روح المسيح هي روح السلام، والسلام الذى أتى به المسيح للعالم ليس مجرد شعارا، بل هو سلام حقيقي: سلام مع الله بالابتعاد عن الخطأ والشر، وسلام مع النفس بالطاعة الكاملة لله، وسلام مع كل الناس بالود والمحبة، لقد ترك المسيح للعالم أعظم تركة يمكن أن يتمتع بها البشر وهى السلام" سَلَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ . سَلَمِي أُعْطِيكُمْ.
ليتنا في هذه المناسبة المجيدة نصحح مسار حياتنا ونتخلى عن مجرد السطحية والروتينية في العبادة.

أضف تعليق