«شلبي».. الغلابة يستردون أصواتهم

«شلبي».. الغلابة يستردون أصواتهممحمود عبد الشكور

الرأى24-1-2023 | 22:08

هذه تجربة مختلفة، فيها الكثير من المتعة والخيال، والقليل من الملاحظات، وما أسعدني أكثر أنها تجربة لصناع فيلم «من أجل زيكو»، الذي كان يدور أيضا حول عالم المهمشين، بمزيج يجمع بين الضحك والجدية، وبتركيز على الفوارق بين الفقراء والأغنياء، والفيلمان من بطولة كريم محمود عبد العزيز و إخراج بيتر ميمي.

التجربة الجديدة، التى استهل بها عام 2023 أفلامه، تبدو فى رأيى أفضل، وأكثر طموحا، إنها فيلم بعنوان "شلبي" كتب بيتر ميمى قصته وأخرجه، وكتب له السيناريو والحوار مصطفى حمدي، وتم إهداء الفيلم بأكمله الى روح الراحل صلاح السقا، أحد رواد فن العرائس الكبار، ذلك أن محور الحكاية دمية اسمها شلبي، ولاعب عرائس يعمل فى بيت الرعب بالملاهى اسمه صابر، كما أن الأحداث تنتهى بمسرحية للعرائس، تحمل أيضا اسم "شلبي"، وإن كان الاسم يتجاوز دلالته على دمية خشبية متكلمة، أو على مسرحية للعرائس، إذ أنه يدل أيضا على أحلام الغلابة والمهمشين، وعلى حضورهم رغم كل شيء، فالدمية شلبى هى صوت صابر نفسه، والمعبرة عن انتقاداته وتمرده، وقدرته على مواجهة نفسه والآخرين، والحدوتة فى مجملها ليست إلا عن استرداد الغلابة لصوتهم، من خلال صابر ورفاقه، ومن خلال صوت الدمية شلبي، وعبر مسرحية للعرائس بعنوان "شلبي".

وبينما تبدو الفكرة جادة وصعبة، ومن الممكن أن تسقط فى فخ الهتاف أو المباشرة، فإن الفيلم ذكى ومضحك وممتع، وفيه كثير من أجواء الخيال والتسلية إلى درجة ذكرتني، مع فارق الإمكانيات بالتأكيد، بحكايات أفلام ديزني، وإلى حد أنها جعلتنى أستدعى روح أعمال ماهر عواد كاتب السيناريو الفذ، لأن فيلم "شلبي" يتعامل أيضا مع فكرة الغلابة الذين يتضامنون، ويجعلون الآخرين يسمعون أصواتهم، وبنفس المزيج من الخيال والضحك والمواقف الكاريكاتورية، ومع بعض الأغنيات أيضا. لا أعرف هل خطر على بال صناع الفيلم ذلك أم لا؟ ، ولكنى اختبرت عوالم متشابهة فى كثير من مشاهد الفيلم مع عالم سينما ماهر عواد، وأعتقد أن ذلك ليس سهلا، ويحسب تماما لصناع الفيلم.

لا يعنى ذلك أنه لا توجد ملاحظات، ولكنها قليلة، ولا تتناسب مع صعوبة التجربة واختلافها، فليس هينا أن تستعيد عالم العرائس فى السينما، بعد تجارب محدودة، كان أبرزها فيلم "قمر الزمان" للمخرج حسن الزمان وبطولة نجلاء فتحى ومصطفى فهمى وأبو بكر عزت وسعيد صالح، وفيلم "الأراجوز" بطولة عمر الشريف وميرفت أمين وهشام سليم، وإخراج هانى لاشين.

فيلمنا يخاطر أيضا بأنه موجه للكبار وللصغار معا، وهى مهمة شاقة، وفى الفيلم طفلتان تلعبان دورين مهمين فى مسار الأحداث، والصعوبة أيضا فى ضبط عناصر الضحك دون استطراد أو استظراف، وعدم إفلات فكرة الفيلم من بدايته حتى نهايته، ومع ذلك تحقق نجاح معقول، وكان البناء محكما عموما، مع تميز عناصر كثيرة، بالإضافة الى الإخراج والسيناريو، مثل ديكورات أحمد فايز، وموسيقى خالد الكمّار، وتصوير حسين عسر، ومونتاج أحمد حمدي.

منذ اللقطات الأولى، تقول الدمية شلبى على لسان صابر (كريم محمود عبد العزيز) إن حكايتها عن الناس الشفافة، الذين لا يراهم أحد، وسنكتشف أن صابر، العامل فى بيت الرعب، ومحرك العرائس، هو أحد هؤلاء الغلابة المهمشين، وعندما يعود صابر مع دميته إلى البنسيون الذى يقيم فيه، سنكتشف مزيدا من هؤلاء المهمشين مثل سعدية مديرة البنسيون (روبي)، والتى يحبها شلبي، ولكن تفسد علاقتهما ذكريات زواج فاشل سابق لسعدية، أسفر عن طفلة فقدت صوتها تدعى كرمة.

ومن المهمشين فى البنسيون أيضا نتعرف على شريف جزرة (حاتم صلاح)، الممثل القادم من الإسكندرية إلى القاهرة لتجربة حظه، وفؤاد سوسى (بيومى فؤاد)، مؤلف روايات الرعب الفاشل، الذى لم تنشر له رواية واحدة، وهناك أيضا الطفلة الصغيرة حنان، التى تساعد سعدية فى مركز كمبيوتر للأطفال داخل البنسيون.

بعد تقديم الشخصيات من خلال مواقف مرحة، ننتقل إلى محور الحبكة وهو تضامن هذه الشخصيات، من أجل جمع أموال، لتقديم مسرحية للعرائس، تساهم فى فك عقدة لسان كرمة، والتى فقدت صوتها، بعد أن مات كلبها الصغير، ويصبح هذا الحلم بتقديم مسرحية للعرائس، وجمع النقود اللازمة لذلك، هو عنوان الرحلة والصراع، مما يذكرنا على نحو ما بأحلام الغلابة البسيطة، وبتضامنهم معا فى أفلام ماهر عواد.

ننتقل من مغامرة إلى أخرى للحصول على المال، مع بعض الخيال والكاريكاتير، كما فى مشهد مطاردة بالسيارات ضمن أحداث الفيلم، بل وتقدم قصة كرمة وكلبها الصغير بالكارتون، ويبدو أحيانا كما لو أننا أمام إحدى قصص الكوميكس، الممتزجة بسخرية لاذعة واضحة من الأغنياء، ومن ذلك التفاوت الطبقي، بين أهل البنسيون، وبين من يمتلكون الأموال، سواء فى القصر الكبير، أو فى القرية التى يعيش فيها عم صابر فى الصعيد.

مثل الكثير من حكايات ماهر عواد، سيحقق الغلابة نجاحا صغيرا، ويكتشفون ما هو أهم، حيث يعرفون قيمة مواهبهم وقدراتهم، ويدركون أنهم يمكن أن يحققوا شيئا ما، لو ظلوا معا، ولو بقوا يدا واحدة، وهذا ما يتضح مثلا فى علاقة صابر وسعدية، وعلاقة صابر وشريف جزرة، وفى علاقة صابر مع أصدقائه من الملحنين والعازفين، ثم يبقى المعنى الأهم بأن محاولة جعل كرمة تسترد صوتها، ساهمت فى أن يسترد المهمشون أصواتهم أيضا، وبسبب شلبى الدمية، وشلبى المسرحية، سمعت المدينة أخيرا بصابر وسكان البنسيون، الذين لا يعرفهم أحد، مع أنهم يقطنون فى وسط المدينة.

والجميل حقا أن هذه المعانى لا تتوه أبدا، بل إن بيتر ميمي، وكاتب السيناريو مصطفى حمدي، كانوا أكثر جسارة فى تقديم مواقف مثيرة للشجن، مثل مشهد شريف (الرائع حاتم صلاح ) وهو يسترد قدرته على التمثيل، بعد أن فشل فى ذلك أمام الجمهور، ومثل مشهد سعدية وهى تعترف بخوفها وضعفها لصابر، ومثل مشهد شريف أيضا هو يدرك أن عليه أن يعود لمساندة صابر وصناع المسرحية، حتى لو أضاع فرصة التمثيل فى السينما.

ربما بدت الأغنيات أقل بريقا من أغنية فيلم "من أجل زيكو"، وربما كانت مسرحية "شلبي" أقل مما توقعنا من نهاية حكاية قوية، وربما تأخر مشهد سعدية مع بنتها كرمة كثيرا، وكان يجب أن نراها معها منذ البداية، وربما كانت حكاية ابنة عم صابر الصعيدية الأقل خيالا وإضحاكا، ولكننا عموما أمام رسم جيد جدا لمعظم الشخصيات، ولانتقالات سلسة بشكل عام تطور الحكاية باتجاه الصراع والذروة، مع تقديم تحية عذبة لوسط البلد، ولكل المهمشين من أهل الفن.

كريم محمود عبد العزيز ممتاز سواء فى مشاهده المرحة أو الجادة، لا يفتعل الحركة ولا الإفيه، ويعبر بوجهه وبعينيه بكل بساطة وقوة، وروبى وبيومى فى مكانهما، وفى دورين جيدين، وحاتم صلاح مفاجأة حقيقية، يضحكنا، ولا يبالغ أبدا، ويجعلنا نتعاطف فى نفس الوقت مع شخصية الممثل المهمش، حتى ظهور عبد الباسط حمودة كان موظفا بشكل جيد ومضحك.

فيلم "شلبي" دليل جديد على أن الأفكار المهمة يمكن أن تقدم من خلال معالجات مسلية ومضحكة، وفيها كثير من المتعة والبهجة.

وفى كل تجربة يؤكد بيتر ميمى أن لديه الكثير، وأنه يمكن أن يترك أفلاما باقية ومميزة، بكثير من الحرية والخيال، وبكثير من المغامرات الفنية اللامعة.

أضف تعليق