«الجد فتحي».. مجموعة قصصية للدكتور عصام فرج ترصد مفردات البيئة الصعيدية وملامح التراث اللامادي

«الجد فتحي».. مجموعة قصصية للدكتور عصام فرج ترصد مفردات البيئة الصعيدية وملامح التراث اللاماديساهر

فنون28-1-2023 | 17:09

"الجد فتحي" مجموعة قصصية عن دار إبهار للنشر والتوزيع تجسّد رؤى فكرية وفلسفة تراثية بأياد عزفها برقة وعذوبة الشاعر عصام فرج الشهير بساهر زاد على أوتار جماليات البيئة الصعيدية وباللهجة الصعيدية، فهي ترصد السلبيات والإيجابيات فى هذه البيئة وترفض العادات والتقاليد البالية التي نسجتها هذه البيئة حول نفسها وتعظّم من قيمة مفرداتها التراثية التي أصبحت علامات وبصمات في تاريخ مصر الحديث والمعاصر واعترف بها العالم كتراث عالمي لا مادى باليونسكو مثل السيرة الهلالية ولعبة التحطيب.

ويرصد الدكتور عبد الرحيم ريحان مفردات هذه المجموعة التي تدخلك في حبكة درامية تبدأ بعرض مسرح الأحداث وهي أرض عزيزة بمنطقة زنين ببولاق الدكرور حاليًا وذلك حين انتقلت أسرة المؤلف إلى أحد أحياء الدقي القديمة بجوار سوق شهير يسمى الحيتية وهو أحد الشوارع الرئيسية التى تتفرع من ميدان الدقي قبل بناء كوبري الدقي المعدني الحالي وقبل أن تمتد إليها يد العمران كباقى المواقع بالقاهرة الكبرى والذى جاء إليها أبناء الصعيد خاصة ليعمّرها وجاءت معهم ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم فهى تعيش فيهم بحلوها ومرها أينما ذهبوا ليس فى شكل لهجة مميزة ولكن فى تكوين ثقافى متكامل ترك بصماته على المثقفين والعامة وهذا ما تضح فى المجموعة القصصية للدكتور عصام فرج الشهير بساهر زاد.

فى هذه الأرض جاءت أسرة ساهر زاد وعمره لا يزيد على أربع سنوات لكنه يحمل أفكارًا لشاب تجاوز العشرين عامًا ولذا سجلت فى ذاكرته طيلة هذه المدة لتتحول إلى عمل قصصى مبهر يربط الماضى بالحاضر كرؤية حضارية للمستقبل.

يذهب الطفل مستكشفًا أرض عزيزة بحثًا عن مكان يلهو به كطفل فيتأثر بمفرداتها الذى تربى عليها فى قريته بالصعيد حيث الأراضي الزراعية واللون الأخضر والنسيم الفواح بمزيج أسطوري من أطياف الورود وزهر البرسيم وموسيقى ساحرة من مداعبات الهواء لأوتار أعواد الذرة، وعن طريق معبرة من الخشب على ترعة زنين انتقل إلى "أرض عزيزة" حيث تكشفت أمامه سجادة خضراء، ما بين أعواد الذرة والحشائش التي تحتضنها كصغارها، وأحواض الطماطم والجرجير والعديد من الخضراوت المتنوعة.

ويتوقف بنا الدكتور ريحان عند شجرة التوت محور ومرتكز الأحداث وقد استرعت انتباه المؤلف فهى الشجرة الأم بمنتصف الأرض تبدو باسقةً وكأن فروعها تحتضن أرضا عزيزة بالكامل في حنان أم رؤوم فتأملها مليًا ودار بينهما حوار حميم دفعته إليها كالمجذوب المسحور أو كمن نادته ندّاهة الغلمان وبجوارها ساقية تعزف سيمفونية أسطورية من خرير الماء وحفيف الشجر.

ومن هذه النقطة بدأت تتضح ملامح المجموعة القصصية حيث قابل الطفل الجد فتحى الذى يعرف الطفل جيدًا وأهله فهو ابن الأصول وبسط له فوق حصيرته سجادة جميلة بألوان زاهية كلوحة سيريالية بديعة، وجاء بجعبته وفتحها وأخرج منها خبز "البتاو" و"عيش شمسي" وهو خبز شهير بالصعيد ينضج على الشمس وهو قيمة عالمية استثنائية للصعيد تستحق التسجيل كتراث لامادى باليونسكو ولا يقل أهمية عن الخبز الفرنساوى الشهير وجبن قريش وخيار وطماطم و "مش" والذي كان فيه "جبنة قديمة وقشر برتقال وليمون مجفف" وهذه من العادات الشهيرة بالصعيد وكان لا يخلو منها منزل حيث بلاص الجبنة القديمة المخلوطة بقشر البرتقال والليمون علاوة على بلاص العسل الأسود.

وبدأت العلاقة تتطور بين الطفل والجد فتحي ليفتح له قلبه ويحكي له أسراره وارتبطا وجدانيًا لدرجة أن الطفل يحلم بما سيرويه له الجد فتحي في اليوم التالى وكأنها عودة للماضى "فلاش باج" وحكى له الحاج فتحى من خلال مفردات البيئة الصعيدية من وجود الموالد لأولياء الله الصالحين وكانت تتميز بالإنشاد الدينى وسوق لبيع الحلوى وغيرها وضمن الاحتفالات كان يأتى الغجر ليعرضوا فنونهم المختلفة فى وجود راقصة شعبية يطلق عليها الغازية.

وكان أهل قرية يرفضون هذا الشكل وسط الاحتفالات الدينية لذا طلب جد الطفل من الجد فتحي أن يطلب من الغجر أن يرحلوا بعيدًا عن قريتهم وعندما ذهب الجد فتحي وكان شابًا فى ذلك الوقت لمنع الغجر وقعت عيناه على الغازية عزيزة وأحس كأن ذكريات الطفولة عادت إليه فهى الشخصية الذى قابلها عند قريته منذ الطفولة وكان الغجر يعسكرون قرب القرية لمدة معينة ثم يرحلون فقابلها ولعبا مع بعضهما كأطفال وتعلق عقله وقلبه بها خاصة حينما رحلوا إلى أجل غير مسمى بعيدًا عن قريتهم فأحس الشاب فتحى بأنه وجد ضالته فى عزيزة والتى وصف عينيها بأنها "جواهر من لولي الجنة حبتين سود وفي بحر أبيض ومالهومش جرار" والتى بادلته نفس الشعور من أول نظرة وطلبت الستر كما فى العرف الصعيدى وهو أن تتزوج الشاب فتحى وتعيش تحت قدميه وستمنتع عن الرقص بالطبع ووافق على ذلك.

وهنا تصطدم بالعادات والتقاليد الصعيدية وهو عدم قبول توبة شخص مهما عمل والله يقبل التوبة عن عباده ويغفر لهم ولكن أهل القرية لم يغفروا لها ولن ينسوا أنها كانت راقصة ولم يكم أمامه إلا هجر القرية حتى أمه رفضت الذهاب معه وفاءً لزوجها حتى تدفن بجواره ورحل الشاب فتحى إلى أرض عزيزة وكان صاحبها خواجة فطلب الشاب فتحى أن يخدمه ويزرع أرضه فى مقابل إقامته وزوجته بالأرض ووافق على ذلك.

وفى ليلة دخوله على عزيزة كزوجة فارقت عند الفجر إلى الأبد هروبًا من التقاليد البالية فهو الحب الممنوع المرفوض من أهله وأهلها وكانت هذه لحظات الوداع كما ذكرها الحاج فتحى باللهجة الصعيدى "كانت ليلة العمر لي وليها وجامت عزيزة جبل الفجر وجالتلي: ""ماتنسانيش يا سيد الناس"" وجامت جريت ونطت في الساقية محسيتش بنفسي نطيت وراها لكن البير كبير كنو بحر ومالوش جرار نزلت لآخر ماجابني نفسي وماجدرتش واسمعها تجولي عيش عيش عشاني".

وماتت عزيزة تحت شجرة التوت و الجد فتحى يصرخ "متموتيش يا عزيزة" ومن ذلك الوقت أطلق على الشجرة عزيزة يقيم بجوارها ويعيش معها ويعايشها عند الشجرة أملًا فى رجوعها فى يوم من الأيام وكل موسم توت يأتى ليأكل التوت ليحس بطعم عزيزة فى فمه كمن يحتسي خمر العشق أو شهد الشفاء
وينوه الدكتور ريحان إلى معالم البيئة الصعيدية فى المجموعة القصصية الموالد ورقصة التحطيب المسجلة تراث عالمى لامادى باليونسكو ولها أصول مصرية قديمة ويصف الطبيعة والخضرة والسواقى وشجر التوت والربابة والسيرة الهلالية المسجلة تراث لامادى باليونسكو وزهرة اللوتس وشاى الحطب وله مذاق خاص وشواء الذرة والعيش البتاو والجبن القريش ممزوجًا بعسل أسود، كما أن ارتباط موت عزيزة بشجرة خالدة قد استحضرها المؤلف من ثقافته وعلمه ومعرفته بالتراث والحضارة المصرية القديمة حيث ارتبطت إيزيس المصرية بشجرة ظللت على زوجها الطيب "أوزوريس" الذى قتله أخيه الشرير "ست" وقطّعه إلى أجزاء ووضعه فى تابوت وألق به فى نهر النيل وانتقل التابوت من النيل عابرًا البحر المتوسط حتى وصل إلى الشاطئ الفينيقى في أرض ليبانو عند مدينة بيبلوس وهناك نمت على الشاطئ شجرة ضخمة وارفة الظلال حافظت على التابوت المقدس من أعين الرقباء.
وكان في بيبلوس ملكة جميلة تسمى عشتروت خرجت لتتريض على الشاطئ فبهرتها الشجرة الجميلة النادرة وأمرت بنقلها لقصرها وأمّا إيزيس فبكت على أوزوريس وقد استبدل المؤلف إيزيس ب الجد فتحى فالإثنين ضحية الشر، الشر المتجسّد فى حسد ست على أخيه الطيب أوزوريس والشر الكامن فى الحب الممنوع الذى حرم الجد فتحى من حبيبته وبحثت إيزيس عن أشلاء أوزوريس على طول شاطئ النيل واختلطت دموعها بماء النيل حتى فاض النهر كما اختلطت دموع الجد فتحى بمياه البئر، وبينما كانت تجلس بين سيقان البردى في الدلتا همس في أذنيها صوت رياح الشمال تبلغها بأن المعبود أوزوريس ينتظرها على شاطئ بيبلوس فذهبت واستضافتها عشتروت، وكانت إيزيس تحول نفسها كل مساء بقوة سحرية إلى نسر مقدس تحلق في السماء وتحوم حول شجرة زوجها أوزوريس كما يحوم الجد فتحى يوميًا حول شجرة التوت حتى حدثت المعجزة وحملت إيزيس بالطفل حورس من روح أوزوريس ورجعت به مصر تخفيه بين سيقان البردى في أحراش الدلتا حتى كبر وحارب الشر وخلص الإنسانية من شرور ست. ولكن يستمر الحب الممنوع عند الدكتور عصام فرج كصرخة تحذير كأنها تقول لكل المجتمعات "إكسروا كل الحواجز أمام الحب" فالحب ليس له وطن أو أرض أو عنوان "حطموا جدران التقاليد العقيمة التى تخالف تعاليم الأديان السماوية" "افتحوا ذراعيكم للحب فهو الطريق إلى الإيمان وسر السعادة والسلام بين البشر"


وهكذا نعيش بين جنبات الجد فتحى لنعايش شخوصه ونتفاعل معهم ونشاركهم فى الحوار الذى يعلى من قيمة الحب الذى يتحدى التقاليد ولكنه مهما كان فهو داخل دائرة الحب الممنوع ورغم نهاياته المأساوية دائمًا إلّا أنه يحرّك فينا جرح يجب أن يندمل حتى لا تتوارثه الأجيال ليكون للمثقفين دور فى مجابهته، كما تحفظ لنا مجموعة الجد فتحى تراث لامادى بصعيد مصر ليس له نهاية من عادات وتقاليد وحكايات تعد امتدادّا لتراث الأجداد حفظها صعيد مصر عن ظهر قبل حتى أن بقايا اللغة المصرية القديمة مازالت ضمن مفردات اللهجة الصعيدية حتى الآن والذى اختارها المؤلف لهجة لمجموعته القصصية ويذكرنا بعظماء الأمة من شعراء صعيد مصر مثل الخال الأبنودى وكان جمال قصائده فى لهجتها الصعيدية.

كما تضمنت المجموعة العودة إلى الفطرة واللون الأخضر وتناغم البيئة والطعام الصحى حين قال الجد فتحى للطفل "خد ياوليد كول جرجير وفجل وخص يطري على جلبك وينضر خدك وينور بصرك" وحين شاهد الطفل الجد يأكل بلقيمة صغيرة ويمضغ جيدًا وهى طريقة تناول الطعام الصحيحة للاستفادة من الطعام.

أضف تعليق