«تورى ولوكيتا».. ما لا يفهمه الغرب

«تورى ولوكيتا».. ما لا يفهمه الغربمحمود عبد الشكور

الرأى21-2-2023 | 14:56

إذا كان هناك عنوان يصف هذا الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان كان 2022 فهو البساطة فى كل شيء، وهو أسلوب عرفت به أفلام المخرجين البلجيكيين جان بيير ولوك داردان.

هذان الأخوان يقدمان حكايات بسيطة، وبسرد متقشف ومكثف وشديد البساطة، وكأنهما يأخذان حكاية عادية، ليؤثرا من خلالها، أو كأنهما يطمحان إلى جعل أفلامهما الروائية تسجيلا للحياة فى بساطتها وعاديتها، ولكنهما عندما يضعان ما هو بسيط على الشاشة، فإن الحكاية تبدو حقا قوية ومؤرقة، لأنها تتعلق بحياة بشر، وبمصائر شخصيات لم نكن نراهم من الأصل.

فيلمهما الذى أتحدث عنه هنا لا يخرج عن هذه المعادلة السهلة الممتنعة.

عنوانه " تورى ولوكيتا"، وموضوعه معاناة اثنين من اللاجئين جمعتهما صداقة تحولت إلى أخوة خاصة. طفل وفتاة مراهقة من بنين، يناضلان فى بلجيكا، أولا من أجل الحصول على أوراق شرعية للإقامة، وثانيا من أجل الحصول على المال، وذلك بتحويل استغلال الآخرين لهم، إلى العمل لحساب أنفسهم، والموت حاضر فى البداية والنهاية: نجا الطفل تورى من الموت أثناء رحلة الدخول إلى بلجيكا بفضل مساعدة صديقته المراهقة لوكيتا، ثم فقدت لوكيتا حياتها، وهى تحمى تورى فى نهاية الفيلم.

حكاية بسيطة كهذه قد يراها البعض متكررة، ولا تضيف جديدا، وتؤكد انحياز الأخوين داردان لفتح الباب للمهاجرين، وإلى ضرورة تقنين أوضاعهم قبل أن تسحقهم ظروفهم الصعبة، ولكن السر ليس فى الحكاية، وإنما فى السرد البسيط الذى يعتمد على التفاصيل، وعلى دلالات الحكاية، والأفكار والمشاعر التى تصل إلينا، وخصوصا مع توفيق الأخوين داردان فى اختيار الممثلين الصغيرين الذين قاما بدورى تورى ولوكيتا.

الخطورة فى أن ندرك أن هذه القصص العادية ليست كذلك، فالمهاجرون ليسوا أرقاما، ولكنهم بشر لهم أحلامهم، ونحن نرى تورى و لوكيتا بالعمق ومن الداخل، ونحبهما ونتعاطف معهما، ونعتقد أن علاقتهما الإنسانية، والأخوية، كان يجب أن تستمر وتعيش، وأنها أهم من الأوراق والبيانات المطلوبة.

ورغم أن تورى و لوكيتا يتورطان فى تهريب المخدرات، ويحاولان خداع من يشغلهما، ويدفعان ثمن هذه المغامرة الخطرة، إلا أننا نتفهم ظروفهما، بينما لم تتفهم السلطات هذه الظروف.

الأوراق ترى أن كل مهاجر مجرد حالة، ولكن الفيلم يرى أن حياة الفرد متفردة ومهمة فى ذاتها، وتستحق الدفاع عنها، وأن البشر أهم من أن تترك مصائرهم فى أيدى إجراءات بليدة.

جاذبية الفيلم فى التورط والاندماج مع تورى ولوكيتا، وفى حذف كل ما يشوش حضورهما على الشاشة: يغنيان ويجريان ، وتحلم لوكيتا بأن تعمل مساعدة فى الأعمال المنزلية، إذا حصلت على أوراق الإقامة الشرعية، الكاميرا تكاد تلتصق بهما فى كل مكان يذهبان إليه، وكأنها تسللت إلى الأماكن والشوارع، لتلتقط أدق تفصيلات حياتهما.

وحتى عندما تكذب لوكيتا، وهى تقول للسلطات إن تورى هو شقيقها الذى نبذوه، بعد ظهور قدراته فى مجال السحر، فإننا نستقبل الكذبة كلعبة طفولية من الطفل والمراهقة، ونتفهم ظروف لوكيتا الصعبة، التى تعطى ما تكسبه للمهرب الذى أدخلها إلى بلجيكا، كما ترسل بقية النقود إلى أمها، لكى تعلم أشقاءها الخمسة.

نعرف أيضا أن القوانين لم تجعل مهربا إلا بالكذب، والمفارقة أن يحصل تورى على الأوراق الرسمية، بينما سيكون على لوكيتا الانتظار والاختباء فى مخزن تزرع فيه المخدرات، وذلك بأمر التاجر الكبير، والذى يعمل طاهيا كستار لتجارته غير المشروعة.

فى النصف الثانى من الفيلم ، يبحث تورى عن مخبأ لوكيتا، ويجدها، ويحاول أن يحصل على المخدرات فى المخبأ، لكى يبيع الأصناف لحسابهما، ومن هنا يزيد تورطنا مع البطلين، ونشعر باقتراب المأساة، لتنتهى لعبة الأطفال مع الكبار بالموت، ويلقى تورى كلمة فى رثاء لوكيتا، يشير فيها إلى الأوراق الرسمية، التى تأخرت عن لوكيتا، فكانت السبب فى الموت.

نجا تورى من الموت فى رحلة الهجرة، وقتلت لوكيتا بصورة مجانية فى المهجر، وعلى قارعة الطريق، المشهد ينفذه الأخوان داردان بشكل عادى للغاية، وكأن رجل العصابة يقتل ذبابة أو فأرا، ودون أى تأثير عاطفى مبالغ فيه.

يعطى ذلك تأثيرا قويا ومروعا، لأن بطلة الحكاية ماتت ببساطة، تشبه بساطة حياتها، وماتت أيضا بدون اهتمام، ولكننا عرفناها عن قرب، وأدركنا أنها فقيرة، ولكنها تمتلك حلما، وحتى عندما يريد الطاهى موزع المخدرات أن يستغلها جنسيا، ترفض فى البداية، ثم ترضخ من أجل النقود، ولكننا لا نرى ما تفعله مع الطاهي، لأن المخرجين رفضا أن نراها فى لحظات هوانها، ولم يظهرا أبدا جسدها العاري، الذى لم تحب أن ينتهك، لولا ظروف الحياة الشاقة.

قوة سينما الأخوين داردان فى حواديت دقيقة قائمة على التفاصيل، وفى نسج الحكاية بأبسط طريقة، وفى تحويل الفيلم الروائى إلى تسجيل مقتصد، لا يحدث تأثيره عبر مشهد واحد، ولكن كبناء متكامل.

قد يرسخ فى الذاكرة مشهد بعينه، مثل أغنية لوكيتا التى يرددها تورى فى النهاية، ولكن المشاهد كلها جدارية واحدة، تبدأ من العادي، لتنتهى إلى غير العادي، تتورط فى التفهم، فتتورط فى التعاطف، إنها قوة البساطة، وقوة البحث عن الإنسان فى جوهره، وتقديمه كما هو، والدفاع عنه كفرد، ومن الفرد ينطلق الفيلم إلى القضية والفكرة العامة.

يظل المعنى الأعمق فى الفيلم مثلا أن لوكيتا البسيطة القادمة من أفريقيا، اعتبرت تورى شقيقا لها بعد أن أنقذته، عاملته كإنسان، بينما رفضت السلطات فى الغرب أن تعتبرهما أخوة فى الإنسانية، وتركتهما للشارع، وللمخدرات.

ويا لها من مفارقة مؤلمة ومؤسفة تدين الغرب، الذى يفهم فى الإجراءات والأوراق، ولا يفهم فى الأخوة والإنسانية والصداقة.

أضف تعليق

حظر الأونروا .. الطريق نحو تصفية القضية الفلسطينية

#
مقال رئيس التحرير
محــــــــمد أمين
إعلان آراك 2