ربما يكون الفيلم الأمريكي "قالت" من إخراج ماريا شريدر هو النسخة الجديدة التي تقدم التحية للصحافة العظيمة، وللنساء الجسورات، لأنه يتناول تفاصيل التفاصيل حول قضية حقيقية شهيرة، فتحت الباب لانتهاء عصر صمت النساء، حول محاولات التحرش العديدة اللاتي تتعرضن لها، وكان كشف القضية من خلال تحقيق استقصائي، اشتركت فيه صحفيتان فى جريدة "نيويورك تايمز"، هما جودي كونتور وميجان توهي، اشتركتا فى تأليف كتاب عن القضية، وعن الكتاب اقتبس هذا الفيلم، المؤثر، ومحكم البناء.
أما بطل الفضيحة، فهو المنتج السينمائى الوضيع هارفى واينستين، الذى تبين ممارسته للتحرش، بل واغتصاب ممثلات وموظفات تعملن فى شركته، على مدى زمنى طويل، من التسعينيات، وحتى العام 2016، وهى السنة التس نشرت فيها الصحفيتان أدلة وشهادات ووثائق خطيرة، تكشف تحرشات هارفى واغتصاباته، وتؤكد أيضا أنه قام بدفع أموال لتسوية تحرشات سابقة لممثلات وموظفات، تراوح عددهن بين 8 إلى 12 امرأة، وكشفت القضية كذلك عن وقوع ممثلات شهيرات فى دائرة اعتداءات هذا الذئب العجوز، وكان عمره وقت نشر القضية 62 سنة، مثل آشلى جود (التى تلعب فى الفيلم نفس شخصيتها)، وجونيث بالترو (تشارك بصوتها فى بعض المشاهد) .
أدى النشر إلى محاكمة هارفى وإدانته، وهو يقضى حاليا مدة عقوبة طويلة فى السجن (23 سنة)، والأهم من ذلك أن هذه القضية ساهمت فى عمل قوانين وتشريعات لحماية النساء فى بيئة العمل، كما أدت إلى دفع 82 سيدة للحديث أخيرا عن تحرشات مماثلة، مورست ضدهن، فى بيئات مختلفة، وفى شتى أنحاء العالم.
لكن الفيلم الذى يستغرق عرضه نحو 100 دقيقة، هو فى جوهره رحلة بحث عن العدالة، وتأكيد على قدرة النظام، والصحافة هى عينه الساهرة، على كشف أوجه الخلل، ومراقبة المخطئين، ومحاكمتهم، وحماية الحقوق الفردية المقدسة، وكلها من القيم الأساسية التى تكون "الفكرة الأمريكية"، كما أن فيها معنى النجاح والتفوق المهني، من خلال صحفيتين متميزتين، بل يمكن مقارنة المهنية الرفيعة التى يقدمها الفيلم فى مجال الصحافة الاستقصائية، بما شاهدناه فى فيلمين شهيرين هما "كل رجال الرئيس"، وفيلم "البوست"، وإذا كان الفيلمان يقدمان التحية لمهنية صحفيى "الواشنطن بوست"، فإن فيلم "قالت"، يقدم التحية لصحفيى منافستها صحيفة "نيويورك تايمز"، بينما يمكن مقارنة الفيلم فى تركيزه على موضوع التحرش الجنسي، بفيلم آخر مهم هو "bombshell"، الذى كان يركز على حالات تحرش مشهور فى محطة فوكس نيوز الأمريكية.
فيلم "قالت" ليس نسويا على طول الخط، لأننا نرى رجالا يساعدون فى فضح هذا الذئب العجوز، ونرى مساندة زوجى الصحفيتين لهما، ورغم خصوصية العنف ضد النساء، وإشارة الفيلم إلى وجود ثغرات فى مجال حماية النساء فى أمريكا من التحرش، ووجود قصور فى تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة فى مجال العمل، إلا أن زاوية الرؤية متسعة جدا، بحيث يمكن القول إننا أمام دراسة شاملة، قانونية ونفسية واجتماعية وإنسانية للتحرش والاغتصاب، فالمسألة ليست حالة فردية، بل هى أفكار عامة تجعل المرأة ضعيفة وخائفة، بل إن فيلمنا بالأساس عن فكرة الخوف، وضرورة مواجهته، وهزيمته.
ميجان توهى (كارى موليجان) وجودى كونتور (زوى كازان) لم تكن تنقصهما براعة التحري، ولا ذكاء الوصول للمصادر، ولكن كانت مشكلتهما فى دفع السيدات للحديث علانيــــة، وقبـــــول الشهادة ضد هارفى، وهو ما سيتحقق فى النهاية، ومن هنا جاء اسم الفيلم "قالت"، بمعنى قول السيدات المنتهكــــــــات إنهـــــن موافقات على الشهادة العلنية، بعد سنوات من الصمت والقهر النفسي، والفيلم بأكمله هو كلمة النساء فى القضية، بعد أن تركن الساحة سنوات، لكى يقول هارفى ما شاء.
الأخطر ما يقوله الفيلم من أن هارفى لم يكن ليستمر فى هذا التحرش والاغتصاب، لولا وجود شبكة حماية له مكونة من هيئة محامين ضخمة، بينهن محامية شهيرة، وكانت هذه تدير عملية التسويات والتعويضات المالية التى كان يدفعها سرا للمتحرشات، كما أن الخطورة فى أن حالة هارفى أكدت وجود حالات مماثلة فى كل موقع عمل تقريبا، بل إن الفيلم يبدأ باتهام ميجان فى تحقيق سابق لها لدونالد ترامب، وكان وقتها مرشحا للرئاسة، فى قضية تحرش أيضا، ثم فضح مقدم برامج فى فوكس نيوز بتهمة التحرش، ونسمع ابنة جودى الصغيرة، وهى تتحدث ببساطة عن كلمة"الاغتصاب" التى سمعتها من البنات والصبيان، ونشاهد ميجان وهى ترد بقسوة على رجل حاول التحرش لفظيا بها وبزميلتها جودي، أى إننا أمام ثقافة عامة، وتحرشات شاملة، تطال المرأة فى أماكن متعددة، ومن شخصيات رفيعة.
تتحول الصحفيتان إلى ما يقترب من محققات الشرطة، بل إن رحلة البحث بوليسية بامتياز، لإثبات التهمة على هارفى، ولتطمين السيدات الشاهدات، والفيلم يبدأ بحكاية لورا، التى عملت مساعدة للإخراج فى فيلم من أنتاج هارفى فى العام 1992، ثم تعرضت لتحرشاته، ولكنها صمتت، لتتكلم أخيرا، ولتحسم القضية فى العام 2016، فلا هذه الأمور تنسى، ولا جراح التحرش تزول، ولا الخوف والأسى ينتهيان، أما تنويعات ذلك فهى تشمل الحالات التى يقدمها الفيلم، فالنساء تصمتن إما خوفا على عملهن، أو سمعتهن، كثيرات تركن شركة هارفي، ولكنهن لم تنجحن فى الحصول على عمل آخر، وطاردتهن شبهات سوء السمعة، وإقامة علاقات خاصة مع هارفى، مع أنه هو المجرم الذى تحرش بهن.
لن نشاهد فى الفيلم وجه هارفى أبدا، وإنما سنسمع صوته، وهو يحاول دفع النساء لمقابلته، أو وهو يتحدث تليفونيا إلى صحفيى نيويورك تايمز مدافعا عن نفسه، ونراه من ظهره، وقد حضر ذليلا مع فريق محامين إلى الجريدة، لا يتوقف عن الكذب، ولا عن نفى تهمة الاغتصاب، ويقسم كذبا بزوجته وأولاده لتضليل النساء، ويحتج بأنه مريض يريد التماس المساعدة من طبيب نفسي، ولكن كل ذلك لم يشفع له، فقد أجبر على ترك الشركة، وحوكم وأدين فى نهاية الأمر.
لدينا بناء متماسك ومحكم، حافل بالتفاصيل، بل ويبدو الفيلم درسا فى مجال الصحافة الاستقصائية، ولذلك يجب عرضه للصحفيين، ولمناقشة هذه القدرة العالية على بناء قصة درامية عن بناء قصة خبرية، المهنية الصحفية فى البحث عن الوثائق والشهادات، وتأكيد كل معلومة، ووجود محام فى الجريدة يقدم مشورته للصحفيتين، كما أن استكمال القصة يجعل جودى تسافر إلى لندن لإكمالها، ويؤكد الفيلم أن حكمة رؤساء العمل ودعمهم مهم ومحوري، والجريدة تمهل هارفى يومين ليمارس حقه فى الرد قبل النشر، ومن يرفض ذكر اسمه من المصادر، تحترم الصحفيتان ذلك، وكلها قواعد مهنية ذهبية يقدمها الفيلم بدقة، وتؤديها بوعى وباقتدار الممثلتان كارى موليجان، وزوى كازان.
إيقاع الفيلم السريع مناسب أيضا لحبكته وتفاصيله الكثيرة المكثفة، وإدارة المخرجة لكل المملثين جيد، ولكن دون تميز بصرى خاص أو متفوق، نحن فى الحقيقة أمام ريبورتاج مصور عن ريبورتاج صحفي، والملاحظ أن الفيلم لم يقدم مشاهد استغلال بطلاته جنسيا، واكتفى بروايتهن اللفظية، وتركيب لقطات لردهات، وجدران، وبقايا أطعمة، على اعترافات النساء، وكأن الفيلم لا يريد أن ينتهك جسد النساء، ولو حتى على سبيل التجسيد الدرامي، ومن أفضل مشاهد الفيلم مشهد النهاية، حيث يتم نشر القصة الخبرية إليكترونيا، تختفى اللقطات الفردية، ونرى صورة جماعية لفريق التحرير.
هذا فيلم عن هزيمة الصمت، عن كلام النساء، بعد أن انفرد الرجل طويلا بالكلام، عن العدالة التى تحتاج شجاعة للدفاع عنها، وعن الصحافة، عين المجتمع التى تراقب وتكشف وتدين، والتى تؤثر فى الناس، لأنها تعبر عن الناس.