ورد سؤال لدار الإفتاء يقول السائل فيه، يعاني صديق لي من مرض نفسي يحتاج إلى المتابعة مع الطبيب النفسي والعلاج؛ فهل يجب على مَن يُعَالج من مرض نفسي أن يخبر مخطوبته بذلك؟
قالت دار الإفتاء اهتم الإسلام ب عقد الزواج اهتمامًا بالغًا، وشرعَ لأجل انعقاده وضمان استقراره في ظلّ رضا طرفيه وسعادتهما عددًا من الأحكام الفقهية والقواعد المرعية، والتي منها: مراعاة حقوق طرفي عقد النكاح؛ سواء قبل انعقاده أو حال قيامه؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف﴾ [البقرة: 228].
ومن الحقوق الثابتة التي كفلها الشرع الشريف لطرفي عقد الزواج قبل انعقاده: تحقق الرضا بينهما على ما به تقوم حياتهما وتستقر أسرتهما؛ وذلك ببيان ما قد يحُولُ دون ذلك من عيوب في الخاطب أو المخطوبة.
فأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أنها جاءت النبيَّ صلي الله عليه وآله وسلم تسأله: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ رضي الله عنهما خَطَبَاهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ». فدلَّ الحديث على مشروعية إعلام المخطوبة بما في الخاطب من عيب ولو لم يكن مؤثرًا على مقصود الزواج؛ إما لتخييرها بين القبول به والرفض أو لأجل أن تحترز منه، وتعمل على تفاديه حال انعقاد العقد.
وتابعت دار الإفتاء لَمَّا كان المرض في عمومه ممَّا يحتاج إلى عناية خاصة، ورعاية مقصودة مِن المريض وأسرته؛ فقد فرَّق الفقهاء في اعتبار الأمراض مِن العيوب التي يفسخ بها الزواج ويلزم الخاطبَ الإخبارُ بها قبل العقد بين أمراض تخلّ بمقصود العقد أو تضرّ بالزوجة فيلزم الخاطب الإخبار بها قبل العقد ويحقّ للزوجة طلب الفسخ بها بعده، وأمراض لا تخلّ بمقصود الزواج ولا تضرّ بالزوجة فلا يلزم الإخبار بها ولا تستحق بها الزوجة الفسخ.
الإفتاء
وبينما اقتصرت نصوص الفقهاء على تحديد أنواع من الأمراض الجسدية أو العقلية المسوغة لطلب الفسخ والتي يجب الإخبار بها؛ كالجب والعنة والرتق والفتق والجنون والجذام والبرص، إلا أنَّ الضابط الذي وضعوه، والعلة التي راعوها في تنزيل الحكم الشرعي يمكن تطبيقهما على جميع الأمراض التي لم تتناولها نصوصهم ولم تشملها عباراتهم؛ سواء أكانت أمراضًا نفسية سيكولوجية، أم جسدية فسيولوجية؛ لما تقرر مِن أنَّ "الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"؛ كما في "تشنيف المسامع" للإمام الزركشي (3/ 54، ط. مكتبة قرطبة).
فالعلة: هي العيب أو الضرر المترتب على المرض إذا كان شيء منهما ممَّا يخلّ بالمقصود الأصلي من النكاح.
والحكم: هو الحقّ في طلب الفسخ أو الطلاق للضرر.
قال شهاب الدين القليوبي في "حاشيته على شرح المنهاج" (2/ 245، ط. دار الفكر): [عيب النكاح: وهو ما يخلّ بمقصوده الأصلي] اهـ.
وقد أفاد المتخصصون من الأطباء النفسيين -الذين تم الاستماع إليهم في المسألة- أن الأمراض النفسية من حيث إمكانية التعايش معها ومدى تأثيرها على استقرار الحياة الزوجية والأسرية تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الأمراض التي يصعب التعايش معها وتحمل تبعاتها من رعاية وعناية وكلفة مادية أو بدنية، ممَّا ينعكس بالسلب على استقرار الأسرة والحقوق الزوجية، ومن ذلك: أمراض الفصام "كالبارانويا"، والاضطرابات الذهنية الحادة كالذهان، والاضطرابات المزاجية كالهوس والوسواس الشديدين، وهذه الأمراض مما يجب على الخاطب أن يخبر مخطوبته بها قبل العقد عليها؛ حتى تكون مخيرة بين إتمام العقد أو فسخ الخطبة، ويُعَدّ كتمانه هذا النوع من الأمراض تدليسًا وغشًّا؛ لكونه أخفى عليها ما يلزمه الإخبار به ممَّا قد يخلّ بالمقصود الأصلي من عقد النكاح أو يضرّ بحق الطرف الآخر.
ولا يخفى أنَّ ثبوت الضرر بالمرض النفسي أشد وقعًا وتأثيرًا على الحياة الزوجية من ثبوته في المرض الجسدي، إذ إن المرض النفسي إضافة إلى أنه يضر بالطرف الآخر وقد يخلّ بمقصود الزواج؛ فإنه يتطلب الاحتياج لرعاية دائمة، وكُلفة باهظة، وترقّب دائم، وتحمّل تبعات تحتاج إلى مَن يحسن التعامل معها، ويتطلب أيضًا قدرة نفسية خاصة تُعِين على التكيُّف معه وتَـحَمُّلِهِ؛ كما أفاد بذلك خبراء الطب النفسي، فهو بذلك أَوْلَى لثبوت العيب به من الضرر الجسدي، وهذا ما نص عليه الإمام محمد من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة؛ من أن مرض الصرع والوسواس -وهي أمراض نفسية- من العيوب التي تثبت الحق في الخيار.
قال الإمام الكاساني الحنفي في "بدائع الصنائع" (2/ 327، ط. دار الكتب العلمية) في شروط لزوم النكاح وبيان العيوب المنافية لمقاصده: [قال محمد: خُلُوُّهُ من كل عيب لا يمكنها المقام معه إلا بضرر؛ كالجنون والجذام والبرص: شرط لزوم النكاح؛ حتى يُفسخ به النكاح، وخلوه عما سوى ذلك: ليس بشرط، وهو مذهب الشافعي. وَجْهُ قول محمد: أنَّ الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة، وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك؛ لأنها من الأدواء المتعدية عادة، فلما ثبت الخيار بتلك، فَلَأَنْ يَثبت بهذه أَوْلَى] اهـ.
وقال الشيخ الدردير المالكي في "أقرب المسالك" (2/ 467-469، ط. دار المعارف): [(الخيار) مبتدأ (للزوجين).. أي: يثبت بسبب وجود عيب بصاحبه (إذا لم يسبق علم) بالعيب قبل العقد، فإن علم بالعيب قبل العقد فلا خيار له (ولم يرض) بالعيب حال إطلاعه عليه.. فقال: الخيار للزوجين بِبَرَصٍ.. (وجنون) بطبع أو صرع أو وسواس (وإن) وقع (مرة في الشهر)؛ لنفور النفس منه] اهـ ملخصًا.
وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في "أسنى المطالب" (3/ 117، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو استشير في أمر نفسه في النكاح؛ فإن كان فيه ما يثبت الخيار فيه؛ وجب ذكره للزوجة] اهـ.
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في "حاشيته على الغرر البهية" (4/ 102، ط. المطبعة الميمنية): [إذا استُشير في نفسه للنكاح: يجب ذكر العيب إن ثبت به الخيار] اهـ.
وقال شهاب الدين الرملي الشافعي في "حاشيته على أسنى المطالب" (3/ 175، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(الباب الثامن: في خيار النكاح).. (قوله: والجنون وإن تقطع).. والصرع من غير جنون: حُكمه حُكم الجنون] اهـ.
وقال الشيخ ابن القيم الحنبلي في "زاد المعاد" (5/ 166، ط. مؤسسة الرسالة): [والقياس: أنَّ كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة: يوجب الخيار، وهو أَوْلَى من البيع] اهـ.
وقال العلامة الرحيباني الحنبلي في "مطالب أولي النهى" (5/ 147، ط. المكتب الإسلامي): [القسم الثالث من العيوب المثبتة للخيار: (وهو الجنون ولو) كان يخنق (أحيانًا)؛ لأن النفس لا تَسْكُنُ إلى مَن هذه حاله (ويتجه، ومنه) أي: من الجنون الذي يكون في بعض الأحيان: (الصرع)] اهـ.
والنوع الثاني: الأمراض التي يمكن التعايش بها ومعها، ولا تؤثر في استقرار الأسرة، ولا تضرّ بالحقوق الزوجية، فلا يلزم المريض حينئذ الإخبار به قبل العقد؛ لانتفاء الضرر منها أو انتقاص حق الطرف الآخر بسببها، ومن ذلك: اضطرابات القلق أو الخوف أو النوم أو الأكل، ما لم تصل بصاحبها إلى حد المبالغة أو الهيستيريا.
قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (3/ 117): [ولو استُشير في أمر نفسه في النكاح.. وإن كان فيه ما يُقلّل الرغبة عنه ولا يثبت الخيار؛ كسوء الخلق والشح: استحب] اهـ. أي: استُحِبَّ له في هذه الحالة أن يخبر بهذا الأمر ولا يجب عليه ذلك.
ولَمَّا كان المرض النفسي متفاوتًا شدةً وضعفًا، ومتباينًا من شخص إلى شخص، ومتردد الأعراض ما بين كونه مرضًا نفسيًّا يلزمه العلاج أو اضطرابًا سلوكيًّا يضبطه التقويم والإرشاد أو سمتًا شخصيًّا ينصلح ويُقَوَّم بالرقائق والآداب: كان المرجع في بيان ذلك وتحديده هو الطبيب المختص الذي يستطيع التمييز بين أعراض هذه الأحوال والوقوف على حقيقتها، وكان الرجوع إليه في شأن إخبار الطرف الآخر أو عدم إخباره أصلًا لا بد من مراعاته.
وينبني على ذلك: أنه لا يجوز بحالٍ أن يجعل الإنسان من نفسه حكمًا على نفسه في شيءٍ يتعلق بحق غيره عليه؛ لما تقرَّر في القواعد من "عَدَم جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْخَصْمِ والْـحَكَمِ"، علاوة على أن غالب الأمراض النفسية يُصاحبها من الاضطرابات ما قد يؤثر على حكم المبتَلَى بها على نفسه، وقد نصَّ فقهاء الحنابلة على أنه يشترط في تزويج المريض: الرجوع إلى شهادة أهل الطب؛ كما في "كشاف القناع" للعلَّامة البهوتي (11/ 251، ط. وزارة العدل السعودية).