الطريق إلى حماية الأمن الغذائي

استوقفتنى كلمة «كورد لاند سمان»، المدير التنفيذى لمجموعة شركات تيسن كروب (thyssen krupp) خلال افتتاح مجمع الأسمدة الفوسفاتية والمركبة بالعين السخنة، عندما قال: «لولا البنية التحتية الضخمة التى قامت بها مصر ما كان لمثل هذه الصناعات العملاقة أن تقام».

فالصناعات العملاقة دائمًا ما تحتاج إلى رؤية وتخطيط جيد لتتكامل مع احتياجات الدولة.

لم يكن هذا القطاع غائبًا عن استراتيجية الدولة المصرية التى استهدفت توفير الأمن الغذائى للمواطن رغم التحديات التى تواجهها.

كانت الاستراتيجية تستهدف توفير الغذاء الآمن للمواطن، ومواجهة الطلب المتزايد فى ظل الزيادة السكانية المطردة، وارتفاع الأسعار العالمية، مما يخلق تحديًا أمام الدول المستوردة للغذاء.. من هنا كان لا بد من العمل على الوصول للاكتفاء الذاتى للعديد من السلع الغذائية.

كما أن ما حدث فى الدولة المصرية خلال الفترة من 2011 وحتى 2013 والاعتداء المتزايد على الأرض الزراعية مما قلص حجم المساحة المنزرعة وبالتبعية قلت معها الإنتاجية من المنتجات الغذائية، من الخضر والفاكهة والحبوب والمحاصيل الاستراتيجية مما رفع من فاتورة الاستيراد.

فتقلصت الرقعة الزراعية القديمة أمام الاعتداء عليها بالبناء، وهى من أجود الأراضى وأخصبها وأعلاها إنتاجية، فى الوقت الذى ارتفعت فيه تكلفة استصلاح الأراضى الجديدة.

هنا كانت أهمية وضع رؤية متكاملة لتوفير الأمن الغذائى تسير وفق مسارات متوازية، فقطاع الأمن الغذائى يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على التنمية الزراعية، وقطاع الزراعة يعتمد على تنمية قطاع صناعة الأسمدة الفوسفاتية والآزوتية والبوتاسية والتى تساهم بشكل كبير فى زيادة إنتاجية الفدان.

(1)

كانت الرؤية واضحة باستهداف التوسع فى الرقعة الزراعية فى أسرع وقت لتعويض فقد أكثر من 300 ألف فدان من أجود الأراضى وإضافة مساحات زراعية جديدة تغطى الاحتياجات، فكان مشروع المليون ونصف المليون فدان باكورة تلك المشروعات، وكذا مشروع الـ 100 ألف فدان من الصوب الزراعية؛ لكن كيف لهذه المشروعات أن ترى النور والدولة لا تمتلك مقومات زراعة تلك الأرض، من مياه وتقاوٍ وأسمدة كيماوية إضافة إلى شبكات الرى الحديثة والمستلزمات الزراعية.

ولأن التنمية الزراعية والتوسع الأفقى والرأسى بها يعتمد على توافر الأسمدة من أجل زيادة الإنتاجية، فكان لا بد من التحرك فى أكثر من مسار خاصة أن طموح الدولة المصرية لم يتوقف عند المليون ونصف المليون فدان، لكنه استهدف إضافة أكثر من 4.8 مليون فدان نقترب خلال نهاية هذا العام من الانتهاء من استصلاح وزراعة 3.5 مليون فدان تم إضافتها للرقعة الزراعية، وهى تمثل أكثر من ثلث المساحة المنزرعة فى مصر خلال 200 عام منذ قيام محمد على بتعديل نظم الرى وتنظيم الزراعة.

لكن هذا لم يكن ليحدث والدولة المصرية تعانى من عجز كبير فى الأسمدة الآزوتية والفوسفاتية والبوتاسية بلغ 6.4 مليون طن عام 2012.

الأمر الذى جعلها تستهدف التوسع فى تلك الصناعة (الأسمدة الفوسفاتية والمركبة) فتم إنشاء أكبر مجمع للأسمدة الفوسفاتية بالفيوم ويضم 9 مصانع؛ وتم افتتاحها عام 2015 لتواجه التزايد فى الطلب نظرًا للتوسع فى استصلاح الأراضي.

كما تم إنشاء مجمع إنتاج الأسمدة الفوسفاتية والمركبة بالعين السخنة ويتكون من 9 مصانع، بالإضافة إلى (مجمع إنتاج الأسمدة الآزوتية بالعين السخنة والذى يتكون من 6 مصانع لإنتاج الأسمدة الآزوتية).

كل تلك المشروعات استهدفت تحقيق الاكتفاء الذاتى من الأسمدة الفوسفاتية والآزوتية والتى تعد إحدى ركائز تطور الزراعة لزيادة الإنتاجية، فى ظل حرص الدولة على إنتاج تقاوٍ محسّنة تصلح لمشروعات التوسع الرأسى فى التنمية الزراعية (مشروع الـ 100 ألف فدان من الصوب الزراعية) بقاعدة محمد نجيب والعاشر من رمضان وقرية الأمل بالإسماعيلية، لتتضاعف إنتاجية الفدان 5 أضعاف.

واستهدفت تلك المشروعات التى استخدمت أحدث الوسائل التكنولوجية فى الزراعة الحديثة، بالتعاون مع الشركاء الدوليين ونقل الخبرات العالمية لإنتاج غذاء آمن وفق المواصفات الأوروبية، ليغطى إنتاج تلك البيوت الزجاجية فترة انخفاض الإنتاج للزراعة التقليدية (فترة ما بين العروات) والتى كانت تشهد ارتفاعًا كبيرًا فى الأسعار.

ليُحدث ذلك المسار (زراعة 100 ألف فدان من الصوب الزراعية) وفرة فى الإنتاج، ويحد من ارتفاع الأسعار.

فلولا تواجد مثل تلك المشروعات والقيام بإنشائها قبل حدوث الأزمة العالمية (كورونا) والتى أصابت سلاسل الإمداد بحالة من الشلل التام، ونتج عنها ارتفاع مبالغ فيه فى أسعار المنتجات الغذائية على مستوى العالم خاصة فى الدول الأكثر استيرادًا.. لما استطاعت مصر عبور تلك الأزمة.

كما أن التوسع فى الرقعة الزراعية والذى شمل مشروع الدلتا الجديدة (مستقبل مصر) والذى يقع على مساحة 2.2 مليون فدان، ومشروع تنمية جنوب الوادى (توشكى الخير) على مساحة مليون و100 ألف فدان، ومشروع تنمية شمال ووسط سيناء والذى يبلغ 460 ألف فدان.

تلك المساحة لم يكن للدولة المصرية أن تتوسع فيها؛ لولا التوسع فى إنشاء القلاع الصناعية لزيادة إنتاج الأسمدة لمواجهة التزايد على الطلب؛ ولارتفع حجم الفاتورة الاستيرادية؛ ولشهدت الإنتاجية المحصولية انخفاضًا كبيرًا مما قد يسبب عجزًا ضخمًا فى الإنتاج ويضاعف الأسعار.

لقد تسبب عجز الأسمدة بالولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة جائحة كورونا فى انخفاض كبير فى إنتاج المحاصيل الزراعية، الأمر الذى يدلل على أهمية هذا القطاع بالنسبة للتنمية الزراعية.

(2)

لم تقتصر الرؤية على التوسع فى قطاع الأسمدة لسد العجز وتلبية الطلب بما يتناسب مع حجم التوسع فى الرقعة الزراعية، لكن أيضًا كان أحد الأهداف التى احتلت أولوية عند متخذ القرار أن تبنى تلك القلاع الصناعية الكبرى وفق أحدث النظم العالمية، وبما يجعل الإنتاج لديها يتوافق مع المعايير العالمية.

بالإضافة إلى تعظيم القيمة المضافة للغاز الطبيعى المصرى بإنشاء أسمدة أزوتية عالية القيمة.

ويسهم فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من هذه الأسمدة وتصدير الفائض، بعد أن ارتفع الإنتاج إلى مليون و740 ألف طن مقارنة بـ 220 ألف طن منذ 8 أعوام بمعدل نمو صناعى كبير، وهو ما انعكس على نسبة التصدير بمعدل ٥ أضعاف، حيث كان يتم التصدير لـ 40 دولة فقط والآن يتم التصدير لـ 56 دولة.

وهو ما أهلها للتصدير إلى أستراليا، وهى أكثر الدول تطبيقًا للاشتراطات ومتطلبات الجودة ومعايير البيئة.

ولم يكن الطريق لزيادة الرقعة الزراعية سهلاً، فهو يزيد من حجم استهلاك المياه فى ظل حصة ثابتة لمصر من المياه رغم الزيادة السكانية والتى يتبعها زيادة الاستهلاك، ومع زيادة الرقع الزراعية تزداد الفجوة الأمر الذى تطلب حلولاً غير تقليدية انتهجتها الحكومة مع تحملها لتكاليف باهظة، الأمر الذى جعل تكلفة استصلاح الفدان الواحد تجاوزت الـ 200 ألف جنيه.

فتم توفير المياه لتلك المساحات المستصلحة من خلال معالجة مياه الصرف الزراعى معالجة ثلاثية، مثل محطة معالجة مياه مصرف المحسمة ومصرف بحر البقر والتى تستهدف زراعة 460 ألف فدان بسيناء.

كما تم توفير المياه لمشروع الدلتا الجديدة من خلال أكبر مشروع لنقل المياه ومعالجة مياه الصرف الزراعى فى غرب الدلتا لتروى أكثر من 2.2 مليون فدان فى مشروع الدلتا الجديدة.

حيث تبلغ تكلفة محطة المعالجة 60 مليار جنيه لتضخ 7.5 مليون متر مكعب يوميًا فى شبكة الرى بالمشروع.

وتعد محطة معالجة مياه الصرف الزراعى بالحمام والتى تخدم المشروع من أضخم المشروعات الهندسية والتى توازى 3 أضعاف السد العالي.

ومع توافر المياه كان لا بد لإنجاح مشروع التنمية الزراعية من توفير نوعيات عالية الجودة من التقاوي، والذى يستهدف توفير الأمن الغذائى للمواطن المصري.

وعلينا أن نتذكر أن إنتاج مصر من التقاوى فى العديد من المحاصيل خاصة الخضر كان ضعيفًا جدًا ونعتمد بشكل كبير على استيراد التقاوى من الخارج، ولا ننسى الأزمات المتتالية التى حدثت فى أنواع الطماطم، والبطاطس، الأمر الذى أثر على الإنتاج وكذلك التصدير للخارج.

ولأول مرة تستطيع مصر أن تحقق الاكتفاء الذاتى من إنتاج تقاوى البطاطس، وكذا القمح والذرة والقطن وفول الصويا وعباد الشمس والأرز.

(3)

إن المشروعات التى تقام فى قطاعات مختلفة تتكامل من أجل المواطن المصري، فالتوسع فى البنية التحتية من الطرق وغيرها كان أحد أهم محاور التنمية الزراعية فساهم فى سهولة وصول المعدات الزراعية ونقل المحاصيل للأسواق، كما أن التوسع فى استكشاف وإنتاج الغاز الطبيعى عقب ترسيم الحدود البحرية ساهم بشكل كبير فى توفير الطاقة وكذا التوسع فى صناعة الأسمدة الآزوتية والتى تعد عصب الزراعة.

كما أن التوسع فى الرقعة الزراعية وإضافة تلك المساحات الضخمة التى من المستهدف أن تصل بنهاية عام 2024 إلى 4.8 مليون فدان تضاف للأراضى القديمة بما يوازى نصف المساحة، كان سيواجه أكبر أزمة لو لم يتم استخدام نظم الرى الحديثة، لتقليل حجم المياه المستخدمة وزيادة الإنتاجية.

إنها معركة من أقوى المعارك التى تخوضها الدولة المصرية وتتطلب منا جميعًا أن ندرك حجم ما يُبذل من أجل نجاح استراتيجية توفير الأمن الغذائي.

خليك واعي

فى ظل حروب الجيل الرابع والمعتمدة بشكلٍ كبيرٍ على مسرح عملياتها داخل العقول مستهدفة الشعوب، تظل مرحلة التزييف والتشكيك وضرب الثقة من أخطر مراحل تلك الحروب، فيتم توجيه المجموعات مستهدفة الشعوب لتشكيكها فى عدم قدرة الدولة على إدارة ملفاتها المختلفة، فيتم السيطرة عليهم والتأثير على المزاج العام للشعب.

وتظل كتائب التزييف تعمل لخلق حالة من عدم الرضا الشعبى. عندها تصبح الشعوب جاهزة لاستقبال النقد فقط للحكومات دون أن تدقق المعلومات المدفوعة باتجاهها.

الأمر الذى يتطلب منا أن نكون أكثر وعيًا فى مواجهة كتائب الكذب.

أضف تعليق