إذا كانت التيمات التي تتناولها الأفلام لا تزيد عن 36 تيمة، كما يقول جورج بولتي فى كتابه الشهير، فإن ما يجعلنا أمام هذا الطوفان من الأفلام الروائية الطويلة، منذ بداية السينما وحتى اليوم، ليس محدودية " التيمات"، التي لا تزيد عن 36 تيمة، وإنما تنوع وابتكار " المعالجات"، التي تعيد إنتاج التيمات مرات عديدة، بطرق وأشكال مختلفة، فنشاهد مثلا تيمة الانتقام فى معالجات وقصص وأفلام مشوقة لا حصر لها، وتظهر تيمة فقدان الحب والحبيب فى عدد لا نهائي من الأعمال السينمائية الدرامية الطويلة المؤثرة وهكذا، يبدو الأهم هو البحث عن معالجة تعطي بعض الاختلاف، وإلا كنا أمام استدعاء فاتر وفقير وتقليدي لنفس التيمة.
والمؤسف أن تعاون كاتب السيناريو محمود زهران والمخرج هادى الباجورى فى فيلمهما «أنا لحبيبى» قد جاء هذه المرة تقليديا إلى أقصى درجة، ويتناول معالجة عتيقة لكل كليشيهات تيمة فقدان الحب والمحبوب، على العكس من فيلمهما الأسبق المعروض فى العام 2022 بعنوان «ليلة قمر 14»، الذى كان أيضا عملا رومانسيا، ولكن من خلال سيناريو مدهش، وخمس قصص متفردة تدور حول تيمة الحب أيضا، وعبر قراءة واعية وعميقة ومبتكرة عما نفعله كمجتمع فى العشق والعشاق، بحيث يمكن قراءة «ليلة قمر 14» أيضا باعتباره عملا اجتماعيا انتقاديا، لما حدث فى مجتمع المراقبة والتدخل فى شئون الآخرين من سحق لعاطفة الحب، وسحق للمحبين وللعشاق من الجنسين بالضرورة.
أما «أنا لحبيبى»، الذى يأخذ أغنية شهيرة لفيروز عنوانا له، الذى أسندت بطولته للثنائى ياسمين رئيس وكريم فهمي، فهو فيلم حافل بالثغرات والكليشيهات الرومانسية، رغم تقديرى الكبير لتنفيذ العمل، حيث المشاهد الطبيعية الممتازة فى جنوب سيناء، وحيث توجد عناصر متميزة مثل موسيقى هانى عادل، وتصوير مازن المتجول، ومونتاج باهر رشيد، الذى احتفظ بتدفق السرد رغم الانتقال بين الماضى والحاضر.
لا شك فى قدرة هادى الباجورى التقنية كمخرج ، بل إننى أحترم اجتهاداته فى تقديم نوعيات أفلام مختلفة، رغم أن النتائج لم تكن جيدة على طول الخط، وأحترم أيضا محاولاته فى تقديم أفلام عن العلاقة بين الرجل والمرأة، سواء بمسحة رومانسية، أو اجتماعية، ولكن لا يمكن إنتاج فيلم جيد ومتميز بدون كتابة مختلفة.
مشكلة «أنا لحبيبى» الواضحة فى المعالجة، وفى تفاصيلها، وفى اضطراب الجمع بين حبكة رومانسية حافلة بما هو متوقع وتقليدى ومعتمد على ضربات الأقدار، وبين حبكة نفسية، لم تدرس بشكل جيد، فجاءت غريبة ومشوشة.
القصة المحورية هى نهاية علاقة ليلى (ياسمين رئيس)، مع زوجها شادى (كريم فهمى)، فجأة وبدون مقدمات يتشاجران دون أن نعرف سبب شجارهما، ومنذ تلك اللحظة نرى ليلى وهى تحاول الاتصال بشادى، دون أن يرد عليها، بل إنها توافق أن تحكى حكايتها مع شادي، لمصور وافقت على أن يلتقط لها الصور فى نويبع، حيث تقيم فنراها وهى تدعى أن ما تحكيه للمصور نور (محمد الشرنوبى)، ليس سوى فصول رواية جديدة تقوم بكتابتها، وكل فصل من الرواية يحمل عنوان أغنية لفيروز، التى يحبها شادي، وتحبها ليلي، أى أننا نعود إلى الماضى فى شكل حكاية ليلى للمصور المحترف نور على شواطئ نويبع.
هذه هى الحبكة الأساسية ونهايتها هروب شادى من ليلى، لسبب لا نعرفه، ومحاولتها أن تسترده من جديد، ولكننا نكتشف فى الجزء الأخير من الفيلم حبكة إضافية، لم يبذل الجهد فى إدماجها ولا فى العناية بتفاصيلها، ومحور هذه الحبكة هو حالة ليلى الراهنة نفسيا، واكتشاف هوية المصور نور، وعلاقته بحكاية ليلى.
فى القصة المحورية، كليشيهات التعارف التقليدية بين اثنين لا يعرفان بعضهما، وانبساطهما من رحلة بالصدفة جمعتهما فى قطار الصعيد الفارغ من الركاب (!!)، ثم تحول الانبساط إلى حب، ثم وقوف أم ليلى (سوسن بدر) ضد زواجها من شادي، الذى يعمل فى موقع صحفي، وكتب روايته الأولى.
اعتراض الأم، التى تذكرنا بعلوية جميل فى أفلام الأبيض والأسود، بسبب الفارق الاقتصادي، وهى لا تكتفى بالرفض، ولكنها تؤذى شادي، وتبعث بمن يضربه، وتسجن والده (بيومى فؤاد)، فيتراجع شادى عن مشروع زواجه من ليلى، ولا يتشجع ويتمسك بها، إلا عندما تقرر ليلى الانتحار، فيقوم والدها (محسن محيى الدين) بالتدخل، وتزويج ليلى العاشقة من حبيبها.
لن نعرف أبدا ماذا تعمل ليلى هذه اللهم لو كانت عملها هو التفرغ لعشق شادى والنداء عليه «ارجع يا شادي» ؟!!، ولا يمكن أن تبتلع هذا التنميط فى رسم الشخصيات، ولا هذه العلاقة الغريبة وغير المتوازنة بين ليلى وشادي، ولا يعقل أن يكون الحل فى اتحافنا بأغنية لفيروز أو برقصة تحت المطر؛ لسد هذه الثغرات أو لحل مشكلة حكى ليلى روايتها فى فصول ساذجة، لشخص التقت به فى نويبع، ووافقت على أن يقوم بتصويرها.
فإذا أضفت اكتشافنا لطبيعة حالة ليلى فى النهاية، ولسر غياب شادي، ولحقيقة دور نور المصور فى الحكاية، فإن الثغرات تصبح أكثر اتساعا وغرابة، حيث يتحول بحث ليلى عن شادى من «حالة رومانسية»، إلى «حالة مرضية»، وهو انتقال يأخذنا إلى تعقيد كامل، وليس بالبساطة التى عرضها الفيلم، بل ويجعل طريقة أداء ياسمين رئيس للشخصية بأكملها موضع مراجعة كاملة، وفى كل الأحوال، من العبث أصلا معالجة الانكار بحكايات أثناء جلسة تصوير!!
صار الفيلم بهذا المزيج بين حبكتين مركبا من حبكة رومانسية بسيطة إلى حد السذاجة والتكرار، وحبكة نفسية معقدة نوعا ما، ومن الصعب إغلاق أقواسها، وكلها مشكلات خطيرة فى الكتابة، جعلت الحكاية أبعد ما تكون عن الإقناع، وجعلت التلفيق عنوانا لا مفر منه على السرد، وعلى تفاصيل الخلاف، والهروب، والاختفاء.
ربما لا يمكن أيضا الموافقة على أن تكون ياسمين وشادى ثنائيا رومانسيا مثاليا، لا شكلا ولا أداء، والأفلام الرومانسية تعتمد بشكل جوهرى كثيرا على توافق وكيمياء البطلين.
لقد بدت ليلى أكثر حرارة وحيوية على الورق وفى الأداء، بينما بدى شادى عكس ذلك، سواء على الورق أو بأداء كريم فهمي، ونبرة صورته الفاترة، التى لا تتغير أو تتلون بحسب جمل الحوار.
هذا الفيلم الطموح دفع بالتأكيد ثمن استدعاء علوية جميل فى هيئة سوسن بدر، وغياب الدراسة النفسية الجيدة.
أما أغنيات فيروز الجميلة فيمكن الاستماع إليها فى ظروف أفضل، بدون الرقص تحت أمطار بلدنا، وبدون مشاهد الغروب فى نويبع.