الآن الحياة في مصر تحتاج إلى قراءة دقيقة.. الحياة في
الوطن العربي من المحيط إلى
الخليج تحتاج أيضًا إلى متابعة عن كثب.. نحن جميعًا على أعتاب حروب إن لم نكن نخوضها بالفعل، والحروب التي أعنيها مختلفة ومتنوعة ما بين حرب على الإرهاب، الذي أصبح مستشريا في الجسد العربي ومتواجدا بيننا جميعًا، وحربا ضد مستعمر صهيوني لا يزال يحتل أرضنا الفلسطينية، وحربا ضد مستعمر يهدف إلى طمس هوية الإنسان العربي الملتحم مع أرضه العربية على مر العصور، الذي بتلاحمه وتفانيه ونضاله شكل ذلك الشريط الحضاري الهائل، الذي تربع على معظم صفحات التاريخ.
نعم التاريخ لنا جزء كبير منه وموقعنا المصري والعربي مميز فيه، ولكن ليس بالتاريخ فقط تحيا الأمم، وليس بالتاريخ فقط تتقدم الأجيال، التاريخ دوره محفز لمعايشة وتحد لحاضر صعب وصناعة مستقبل قوي.. فهذا هو ملخص شريط الزمان عبر المكان المصري والعربي.
لذلك تأتي الثورات عندما تتوقف حركة التغيير في المجتمع، عندما يتجمد المجتمع ويطوف حول أفكار ومعتقدات ورجال ومؤسسات يعبرون عن زمن ومرحلة ماضية، عندما يحاول مجتمع تعطيل التحرك الإيجابي نحو المستقبل، ولكن تكمن هنا التساؤلات، هل بالثورات فقط تحيا الأمم وتتقدم؟ هل الثورات دليل حيوي على الوعي الإنساني بحقوقه في التقدم؟، هل أصبح الاهتمام بــ"التاريخ"، و"الحروب"، و"الثورات" هوس أصاب المجتمع خلال الفترة الماضية؟
الإجابات متباينة ولكنها تدور في فلك أن مواكبة تطور العصر والسير نحو المستقبل بأدواته المتغيرة وفق تطبيق مبادئ مجتمعية معاصرة ربما يخرجنا من ظلمة أنفاق الثورات إلى نور أهدافها الطموحة من إصلاحات سياسية واجتماعية واقتصادية والقضاء على العجز المالي.
وهناك أيضًا فترات ما بعد الثورات وصعوبة ما يمكن أن يعايشه الإنسان في المجتمعات الثائرة، خاصة إذا لم تحقق الثورة التي ضحى من أجلها أهدافها المنشودة، وهذا ما عاشه الإنسان المصري، بعد أحداث 25 يناير عام 2011، التي ظن في بداياتها أنها ثورة وهي ليست كذلك.. كانت مجرد مخاضا وأحداثا خرج فيها المصريون على نظام تجمد ضد التغيير ونواه لما حدث بعد ذلك في ثورة 30 يونيو عام 2013 ضد الإخوان وحكم المرشد.
لذلك المجتمع المصري بعد (أحداث يناير وثورة يونيو) ما حدث به وله يستحق أن ينطبق عليه لقب "المهووس" بالسياسة ومتابعتها بكل أبعادها واتجاهاتها المختلفة، "مهووس" بقراءة التاريخ جيدًا ربما يجد فيه حلا لأزماته المتنوعة، "مهووس" بمتابعة الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، الذي أصبح نافذة مهمة تنقل له جزءا ولو قليلا مما يدور، "مهووس" بالسوشيال ميديا التي كانت سبب رئيسي ومهم في الخروج على نظام ظل راسخا لقرابة الـ30 عامًا، لذلك أيضًا يحتاج هذا المجتمع إلى تحقيق وبحث مطول حول عوامل التأثير في طبائعه وصفاته، وأيضًا معتقداته وطموحاته، خاصة أنه تغير كثيرا بعد ثورة 30 يونيو عام 2013 تخلص مما كان يعانيه من فقد للكرامة الإنسانية، وللعدالة الاجتماعية.. وأصبح يعيش الشعب المصري بعد 30 يونيو في مستوى آدمي لائق ويساهم في وضع أسس رخاء مستقبل أبنائه، وما دار ولا يزال يدور في جلسات الحوار الوطني المصري خير دليل ومعلم للشعوب، خاصة في ظل سعى الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" من أجل تحقيق ذلك الرخاء والكرامة لأبناء شعبه في الداخل وأيضا الموجودين في الخارج، رغم أن كل تلك الآمال الطموحات التي تواجهها صخرة الظروف الاقتصادية الصعبة، ما يعانيها المجتمع العالمي والشعب المصري جزءا منه بسبب جشع رأسمالي عالمي لا يزال يسيطر على رءوس الأموال ويتحكم في اقتصاديات الشعوب، خاصة النامية أمثالنا.
أزمة الشعب المصري بعد أحداث 25 يناير 2011 كانت جزءا لا يتجزأ من أزمة الشعوب العربية بعد ثورات الربيع العربي، التي أصبحت المدانة الأولى بعد أن كانت طوق النجاة الوحيد والأمل الأخير لكثيرين حلموا بالتغيير الإيجابي، لذلك أصبحت هوية تلك الأحداث التي عبرت عن الفوضى الخلاقة لميلاد شرق أوسط جديد حسب حلم كونداليزا رايس الأمريكي بين المطرقة والسندان، بين التقديس والتدنيس، وظهر لنا مصلح "هوس الثورات"، الذي فقد معناه رغم محاولات متكررة فاشلة من قبل البعض من أجل إحيائه.
أصبح لدينا "هوس" جديد هو البحث عن هوية الأحداث والثورات؟ ومن وراؤها؟ ومن دفعنا إليها؟! رغم أننا يجب أن نكون معنيين أيضا بمسارها السلبي والإيجابية ومكتسباتها طالما وقعت تلك الأحداث والثورات وغيرت جزءا مما كنا نحتاج إلى تغييره، ووجب التنويه أن بين هذا وذاك يضيع الإنسان العربي فنجده يقتل كل يوم في فلسطين والعراق وليبيا واليمن وسوريا وغيرها من البلدان العربية، نجده لاجئا في ألمانيا وأمريكا وفرنسا ومصر، لذلك فمضمون ما قدمت الأنظمة العربية في كل البلدان العربية من أسلوب ممارستهم ورؤيتهم السياسية والاقتصادية والأمنية ما بعد أحداث الربيع العربي فإنها تصب في خانة الاستعمار والإمبريالية ولم تصحح أوضاعا ما خلفته أحداث الفوضى وتستفيد من الدرس المصري الذي خرج وثار في 30 يونيو تحت قيادة وطنية واعية للدرس التاريخي وقابضة على وحدة شعبها المصري.
وبصورة أدق لقد أصبحت بعض تلك الأنظمة نفسها تشكل غزاة جدد ضد مجتمعاتها ويشكلون مخفر حراسة متقدما مستعدا في أي وقت للوثوب في وجه بوادر تغيير جديد حتى وإن كان سلميا هدفه الأول والأخير الإنسان العربي، والدليل على ذلك ما تفعله تلك الأنظمة العربية ونحن ربما نكون جزءا منها في الإنسان العربي في سوريا الذي أصبح يقتل من الجميع سواء كان من نظام بشار الأسد أو الإرهابيين، الذين يلقبون أنفسهم بـ"المعارضة" الممولين من الجميع.
ربما يأتي يوم نشاهد فيه عودة "الهوس" القديم في وحدة عربية شعبية تقضي على كل المتآمرين على أمنهم وسلامتهم ورخائهم، لذلك أكتب الآن في ذكرى ثورة 30 يونيو ليس كمَعني فقط بالشأن المصري الداخلي بقدر ما كنت مهتما بالشأن الوحدوي العربي، الذي أصبح غير مطروح في قاموسنا المعرفي، من أجل ذلك أعتقد أننا فقدنا البوصلة المجتمعية نحو العدو الظاهر لوحدة المجتمع العربي وهو الكيان الصهيوني المحتل والملقب بإسرائيل، والدليل على ذلك أن ظاهرة التطبيع مع الأشقاء في بعض دول الخليج مر مرور الكرام، وأيضًا خبر احتفال الكيان الصهيوني بمرور سبعين عاما على قيام دولة إسرائيل في فندق الريد الموجود في ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية القاهرة، الذي أعلن عنه منذ عدة أعوام لم يقابل إلا باستنكار جزئي من بعض الشباب المصري والعربي على شبكات التواصل الاجتماعي، ولم تتحرك الجماهير المصرية في القاهرة من أجل الضغط لمنع إقامة الاحتفال ولم يدافع الشباب عن قضيتهم ضد عدو دخل معهم في أربعة حروب ظاهرة وحروب أخرى كثيرة باطنة، صحيح بيننا وبينه سلام الآن ولكنه سلام سياسي فقط، فهل كانت الجماهير في مصر ستتخذ نفس الموقف إذا كان ذلك المشهد طرح أمامهم في الثمانينيات أو التسعينيات؟ أنا أعتقد أن الإجابة: "لا".
لقد عقدت طوال مسيرتي الصحفية حتى الآن مئات اللقاءات، وسجلت آلاف الساعات مع شخصيات مصرية وعربية مختلفة بين سياسيين وصحفيين وإعلاميين وبرلمانيين وحزبيين ومثقفين وأدباء وشعراء وغيرهم من الشخصيات التي يذخر بها المجتمع الجمعي المصري والعربي، كانت قضيتي خلال كل ذلك هي "هوس" التاريخ والحروب والثورات الذي سيطر على الساحة خلال الفترة الماضية بين مصر والعرب وما تبعها من قضايا، حاولت أبحث مع كل هؤلاء عن إجابات لأسئلة تشغل عقول كثيرين لماذا حدث ما حدث؟ وكيف حدث؟ وما سيحدث بعد ما حدث؟.
الأحاديث الصحفية التي كنت أجريها كانت تخرجني متفائلًا وأحيانًا تزيدني يأسًا ولكن حقيقة استمتعت كثيرًا بكل تلك الأحاديث وطرح الأسئلة والإجابات التي جاءت متحفظة من بعض الشخصيات المقربة من السلطات في بعض البلدان العربية، وأخرى مدوية كالقنبلة في وجه السلطات. تفتح أمامهم ملف مصارحة كبير من أجل "هوس" لابد أن يشغلهم ويتمثل في استثمار فرص الإصلاح في الجهاز الإداري والتنظيمي والمعرفي داخل البلدان.
استخلصت من بعض المحاورات، خاصة التي أجريتها بعد ثورة 30 يونيو أن "الهوس الجديد" لابد أن يوجه للهوية العربية الحالية لأنها في خطر كبير، وأن الوعي الجمعي العربي في العواصم والأطراف يشوه تمامًا عن عمد مع سبق الإصرار والترصد، وأن القوة الناعمة والثقافة العربية تواجه ظاهرة الانقراض، وأن الحكومات غارقة تماما "كما أرادوا لها" في المشاكل الاقتصادية وتوفير الطاعم والشراب وترفع أياديها عن الثقافة وتتخلى عن أدوارها في التوعية الحقيقية وتترك الساحات المختلفة للعبث، فقط العبث يحكم ثقافة الشعوب.. لذلك تأتي خلاصة تجربتي الصحفية، التي مازالت مستمرة حتى الآن رغم كل ما تواجهه المهنة والمهنيين في بلاط صاحبة الجلالة من ظروف وأجواء اقتصادية هي الأشد صعوبة في تاريخها مصريًا وعربيًا وعالميًا أن "هـوس" التاريخ والحروب والثورات مختلف عن هؤلاء المهوسين بجمع المقتنيات وطوابع البريد والدخول في علاقات عاطفية.. إلخ، وربما يكون نواة للمعرفة والتغيير من أجل وعي جمعي مصري وعربي يعيد بوصلة الرؤية إلى صالح الإنسان القادر على بناء دولة قوية، خاصة بعد الدرس الكبير في ثورة 30 يونيو، الذي لخص في قول الشاعر الكبير بيرم التونسي (إذا الشعب يوماً أراد الحياه فلابد أن يستجيب القدر).